ميادين العقل العملي في الفلسفة الإسلامية الموسَّعة (الأخلاق والتربية. السياسة والاقتصاد. التدبير والآدابية)
مقدمــة بقلم الدكتور محمد عبدالرحمن مرحبا
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع إهتم صديقي المحرُك في مشروع “الفلسفة في العالَم والتاريخ”، بأن يكون مُتابعاً وصِنواً للاستاذ المرحوم زيوَر – الذي كان يَشغل كرسيّ الطب النفسي في كلية الطب في جامعة باريس؛ ثم بأن يتابع ويُطوُر مصطفى صفوان.. والرأي عندي، إنَّ المعلّم علي زيعور نجح وطوّر في “موسَّعة التحليل النفسي الإناسي للذات العربية” معلوماتنا عن التحليل النفسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الشخصية… ونجد في الجزء الخامس عشر من “الموسَّعة” تحليلاتٍ دقيقة للتخيّل والأسطورة والميثة، ثم للنصّ والخطاب والفكر، وللحلم والمناطق المعتِمة من الشخصية والحضارة، وللتواصل أو التعبير اللغوي وغير اللغوي…
من بين نظريات الأستاذ زيعور النفسانية اشتهرت نظريته في اللاوعي الثقافي العربي؛ وثمة أيضاً نظرياته في: لغة الجسد، علم الكرامة والأولياء، عِلم المألوفيات، اللامُحِفّ والمُصَاحِب والظلِّي في التعبير، علم الرمز، مقامات الفِعل ومقامات الشخصية أو تقسيم الجهاز النفسي…؛ وُيذكَر أيضاً: علم العادات والتقاليد أو الاحتفالات الشعبية والأعراف، علم الرَّضات الاستعمارية أو عِلم الجلاّد والضحية في الحضارات…
وعلي زيعور مؤسِّس في وضْعِه للرائز اللفظي، أو لما أطلَق عليه الروزشاخ العربي؛ وفي ترسيمه لحدود مجال المدرسة العربية في علم النفس وفي العلاج النفسي والتحليل النفسي، ثم للمدرسة العربية في علم الاجتماع وعلم الحضارة والتواصل المُكامِل بين الثقافات.
وكان فَتحاً منهج الزميل زيعور في قراءة الميدان المشترك بين الفلسفة وعلم النفس. فقد أظهَر قيمة النفسانيات في الفلسفة الإسلامية ثم في الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى (جزء من إحدى أطروحته للدكتوراه، في باريس). ومن هنا أيضاً كانت نظريته في رفض مقولة العقل العربي والعقل اليوناني؛ وهي مقولة كانت رائجة في الستينيات حلّلها الدكتور زيعور في ضوء علم نفس المعرفة وعلم النفس التكويني طارحاً إبدال ذلك كلّه بتأسيس علم للعقليات أو للحضارات المتحاورة “المُتغاذية”.
وتوصّل المعلَّم زيعور، في بحوثه وتحليلاته للفلسفة الإسلامية، إلى نظريات وسَّعت هذه الفلسفة، وأغنت مجالها وزمانها، وأضاءت جوانب كثيرة في خطابها. فقد وجَّه أدوات القراءة ومناهج الفكر التحليلي على الفلسفة العملية. الاجتماع والسياسة، الأخلاق، القيم، إشكالية السياسي والديني ثم الأخلاقي والديني، التدبير والتربية وأدب الدنيا، الاقتصاد…
بعد ذلك، في مجال الفلسفة الإسلامية، إنَّ علي زيعور أول من أدخل تدريس أعلام من مثل: ابن أبي الربيع، العامري، مسكويه والكوكبة التي عاصرته، الطوّسي، الدّواني، صدر الدين الشيرازي. فهو أيضاً أول من أدخلهم إلى الجامعة اللبنانية، ثم إلى الجامعة اليسوعية. وترافَقَت، على يديه، مع هؤلاء أيضاً، شخصيات تركية (طاش كبري زاده، حاجي خليفة) ولا سيما هندية (أكبر، أحمد خان، إقبال…). وقد كان يقول المرحوم كمال الحاج، الذي عهد للأستاذ زيعور بوضع مقرّرات قسم الفلسفة في أوائل السبعينيّات، إنَّ علي زيعور هو الذي جعل للفكر الهندي رصيداً مستقلاً؛ وهو الذي ألحّ حتى خصّصنا رصيداً مستقلاً للجماليات، ولعلم القيم، ولعلم اجتماع التخلّف…
ومع علي زيعور نقرأ التحليل النفسي لشخصيات فلسفية وإسلامية كبيرة. فقد عَرّفنا على قسمات شخصية ابن خلدون، وعلى صحته العقلية وتأزّماته الإنفعالية أو تناقضات ميوله وتذبذبها. واستكشف شخصية الغزالي، وابن سينا، وابن رشد، والأفغاني، وكثرةً من الصوفيين؛ ملاحِقاً أزماتهم العقلية، واضطراباتهم النفسية، وتصارع عواطفهم المتكافئة، وطرائقهم في تغطية تلك الأزمات، وفي التعبير البَعدي عن “اهتدائهم للحقيقة” وعن البطولة.
يَستعمل الدكتور زيعور، في دراسته للعقل العملي الإسلامي، طرائق نقدية تُحاكم وتقاضي. فمنهج النقد عنده قريب من المنهج الذي يتأسس عليه التحليل النفسي أو العلاج للمرض النفسي بعد التشخيص أو التوصيف والتفسير. وما كتبه في مجال التربية الإسلامية كان تطبيقاً لذلك المنهج، ثم تحليلاً وتفسيراً هدفهما معرفة الفلسفة النظرية والعملية، وبخاصةٍ التربية الشمولية المعاصرة التي تتأسس على العقلانية وثمرات العلوم الإنسانية ونماذج العلم الدقيق (را: قوله في المدرسة العربية الراهنة في التربية، في القيم…).
أخيراً، لا يسعني إلاّ أن أُعرب عن تقديري للاهتمام بالنصوص. فبذلك التنظيم للنصوص وضبطها في “جسم” أو في “وعاء” سهل التناول، نتغلب على صعوبات كثيرة وتتوفر لنا الفرصة للمقارنة ولتجميع المشتّت المتفرَّق، وحتى للقراءة المُعيدة وحدها إلى الينابيع.
محمد عبدالرحمن مرحبا