– الهنديات والفلسفات الشرقية في الجامعة اللبنانية
في مرحلة ما قبل السبعينات في الجامعة اللبنانية، كان الفكر الهندي يُعرض كموضوعٍ خفيف في كلية الآداب، وفقط في الجامعة اللبنانية، ودون غيرها من جامعات لبنان، والمنطقة. فقد كان يُجمَع داخل برنامج “شهادة تاريخ الفلسفة” مع الفلسفة الأوربية الوسيطية والحديثة والمعاصرة. وهكذا كان عفيف عسيران يُدرِّس بوذا كممِّل للفلسفات الشرقية، وكان يعتمد كُتيِّباً صغيراً من تأليف فؤاد شبل، بغير تدقيق أو عناية كافية إذ كان كلّ مرامه مركَّزاً على ديكارت وفلسفته الإيمانية والاعتقادية ممزوجة وموجَّهة بأيديولوجيا لاهوتية فرنسية استفزازية، مفرِطةٍ في التّبجُّح مع تمجيدٍ تقريظي يستبعد العقل الشرقي والفكر الهندي غير الصالح، بحسب رأيه، لاستيعاب الفلسفة والمجرَّد والمفاهيم الأوروبية.
ثم استلم المعلّم علي زيعور، وقد قَدِمَ من التحليل النفسي والفلسفات النفسية، تدريس مادة الفلسفات الشرقية في 1973 – 1974 واضعاً في العام نفسه وفي متناول الطلاب بحثَيْن أكاديميَّيْن سيظهران، كما سنرى أدناه، في مجلة “دراسات” الصادرة عن كلية التربية. وكان يظهر اهتمام د. زيعور المحلّل النفسي والمعالج، بالناحية العلاجية في الهنديات. وفي خلال عامَيْن أو ثلاثة تحوَّل نظام التدريس في الجامعة من نظام الأرصدة الموزَّعة على سبع مواد سنوياً وممتدة على أربع سنوات. وقد أوكل كمال الحاج والأب فريد جبر إلى د. زيعور مهمة إعداد تعيين الأرصدة الواجب تقريرها في قسم الفلسفة.
بعد ذلك استلم رصيد الفلسفات الشرقية الدكتور مهدي فضل الله، ووضع كتاباً في ذلك الموضوع كان يفرضه على الطلاب إلى جانب كتاب د. زيعور الفلسفات الهندية وقطاع الهندوكية الإسلامية والإصلاحية ط 1، 1980 – ط2، 1983.
أخيراً، انتقل تدريس المادة نفسها إلى الأستاذة د. تغاريد بيضون وانتفعنا كثيراً من تدريسها للفلسفة الهندية التي كان زيعور قد رسَّخ مكانتها الجامعية وعمَّق ميدانها بين ميادين الفلسفة داخل المدرسة الفلسفية العربية الراهنة.
إن الكتب العربية المعنية بالفكر والحضارة والقيم داخل القارة الهندية كانت قليلة وتعميمية. ولم تكن تلك الكتب والمقالات التي تتناول الهنديات (العلم والفلسفة والحضارة في الهند) بحوثاً أكاديمية. فهي على الأحرى، كانت تجميعية تكرّر ما تركه الأسلاف، ولا سيما البيروني العظيم الذي استمر طيلة ثمانية أو تسعة قرون بلا نظيرٍ في الشرق كما في الغرب. وتلك البحوث أو الكُتب السردية الوصفية لم تكن معمَّقة، ولا هي مؤسَّسة أو منطلقةٌ من معرفةٍ بالنصوص السنسكريتية والينابيع. وفي عبارةٍ أخرى، إنّها كُتب كانت من تياريّن اثنين هما:
أ / تيار الكتب العربية التي اهتمت بالفكر الهندي دون أن تتكلم عند فلسفةٍ عن الهنود، حتى ولا عن تفكيرٍ فلسفي أو موضوعاتٍ نظرية مجرَّدة. وفي كل ذلك كانت تلك الكتب توافق الكتب الأجنبية على اعتبار العقل الهندي عقلاً لم يعرف العقل النظري والنظرانية، الديمقراطية والحرية، المجرَّد والماهيات… هنا كان يقال: إن الفلسفة لم تُعرف إلا في أوروبا وعند العربي والمسلمين، وإنّ الهندي مع كل معرفته بالفلسفة اليونانية لم يأنس بها أو يعتنى بها، لأنه محكوم، في رأيهم بالالتصاق والمكوث عند النفعي والعملي أو الآني والمباشر، ومحكوم مسبقاً بالمادي والمحسوس والخرافي والتُّرهَّات والسحر والمعتقدات الشعبية المزعمية.
ورأوا أن العقل الهندي برع فقط في المتخيَّل والشعبي والمزاعم، وفي السحريات والأعاجيب، وفي الحكايا “والملاحم” والأساطير، وفي الإيمانيات والتنجيم. وبخّسوا الاحتفالات والتعاويذ والقيم داخل الحضارة الهندية “الوثنية”، فسخروا من التقاليد والأعراف في مجال التعبّد الهندوسي والمعاملة المميّزة مع بعض الحيوانات المعبودة (البقرة، الحية، القِرد…).
ب / تيار الكتاب المسحورة بعبقرية الهند: هنا اشتهرت إحدى الطوائف الإسلامية في تبنِّيها الكامل والتام للفكر الهندي ولا سيما البوذية. وهنا اشتهرت مؤلفات متواضعة عدد الصفحات وضعها كمال جنبلاط. كما أنه ترجم كتيِّبات أشهرها المونداكا أو بانيشاد، وهذا كتاب عريق داخل التصوف أو العرفان عند الهنود.
وأظنّ أننا لسنا بحاجة للتوقف كثيراً عند كُتبٍ عربيةٍ قارنت بين الإسلام كدين توحيدي والبوذية كما الهندوسية. وهكذا نجد أنّ كتاباً مثل كتاب أحمد شلبي عن الأديان يقسو جداً على الأديان الهندية. وهذا النوع من الكتب الرافضة للهنديات نجده ماثلاً في اهتمامات الفكر الديني الإسلامي برفض الأديان غير التوحيدية، وبالإصرار على تأكيد تفوّق الدين الإسلامي على غيره من الأديان.
وقد حلّلت واستوعبت المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة ذلك النمط من الإنتاج الفكري اللاهوتي، وأصرّت على اعتبار الفلسفة الهندية ميداناً فلسفياً مختلفاً ومنفصلاً عن الاعتقادي والإيماني. ففي الميدان المكرَّس للفلسفة الهندية والمسمّى بميدان “التحاور والتفاعل مع الهنديات” يتجلى خطاب المدرسة العربية في الفلسفة بعامة، وفي العقل الفلسفي الهندي معتبَراً كعقلٍ لا يقلّ نبوغاً وأصالةً أو عمقاً عن العقل الغربي، والعقل الصيني، وما إلى ذلك.
2- خطاب النظرية العربية في تحليل ومحاكمة الفلسفة والنفسانيات الهندية
ذكرنا في السطور السابقة أنّ القول العربي في الفلسفة الهندية نهض وسار من مبدأ مفاده: أن قراءة تلك الفلسفة المذكورة لا تكون إلا قراءة مستقلة عن الأيديولوجي المسبق، وعن الأفكار الجاهزة والأحكام المنمَّطقة. وفي مواجهتها ونقدها ثم في استيعابها وتخطّيها للخطاب الديني الإسلامي المشدِّد على وثنية العقل الهندي واستحالة قبوله كخطاب عالمي ومتقدِّم وموازٍ للأديان التوحيدية، في كل ذلك فإنَ المدرسة العربية في الفلسفة والفكر الكوني الأشملي والأعمِّي شرعت تقول وتعمّق القول بأنّه لا بدَّ من حوار الإسلام مع الهندوسية والبوذية والكونفوشية… فالهندوسية ليست مُشركة أو كافرة ومُلحدة، ولا هي وثنية أو أصنامية وسحرية محضة.
كما أنَّ الاستراتيجيا العربية، كما سنرى في آخر هذا الكلام، أخذت تتغذى بمبادئ لم تلبث أن تجسَّدت في مؤتمر باندونغ، وفي التفاهم الاستراتيجي العربي الهندي، وفي العلائقية بين دول عدم الانحياز.
وإدخال الفلسفة في الهند إلى تاريخ الفلسفة العالمي والشامل قد أتاح للمدرسة الفلسفية العربية الراهنة الزمان والإمكان، أو العوامل والفضاء، من أجل الاعتناء واكتساب الدرس وتعلم المراس والتدرّب على التحليل الفلسفي للنظريات الكونية العقلانية في الوجود (الأَيْسِيَّات) والعقل أو المعرفة، وفي الفن والجمال كما في الخير والفضيلة والقيمة (القيميات).
من جهةٍ أخرى، إنّ ذلك التعلّم على إعادة إنتاج النظريات الفلسفية الهندية وفَّر الشرط والإمكان من أجل إعادة قراءةٍ لخرافة المعجزة اليونانية.
فتحليل العقل النظري، كما العملي والجمالي، في الهند يكشف بوضوح وعقلانية شفّافة أنّ اليونانيين لم يكونوا الوحيدين أو السبَّاقين في النظر المنزَّه وإبداع الفلسفة والعلم والفكر السياسي والفني (راجع: زيعور، الفلسفة العملية والنظرية في الهند والصين، دار النهضة، 2006، ص 35).
ونقد “التحليلات” التبجيلية التقريظية المسقطة على “العقل اليوناني المتفوِّق” دَعَّم نقد خرافة القول بمعجزة أوروبية خارقة، وبعقلٍ أوروبي متميِّز وخارقٍ ومهيّأ مسبقاً للسيطرة على العالم ولقيادة التاريخ ومستقبل الحضارات. لقد كان استراتيجياً استئنافُ وتعميق النظر الفلسفي العربي في الانفتاح والتحاور والتفاعل الجدلي مع القول الفلسفي والفعل الفلسفي عند الهنود. وذلك التعاون الفلسفي من أجل الإنسان والبشرية والمستقبل، قد ساعدنا على المزيد من الفضح والتدمير للنزعات العِرقية والعُنصرية، للعِرقانية والعنصرانية، التي تحكم أو حكمت قروناً العقلَ الأوروبي، بل وتحديداً العقل في أوروبا الشمالية، في بعض أوروبا المحدود. وباختصار، نستنتج ونستوحي من تسليط الضوء على التعامل الخلاّق والعلماني مع الخطاب الهندي في الفلسفة، مقولاتٍ ومبادئ فلسفيةً محضة؛ وأخرى استراتيجيةً وتعاملية حضارية مستقبليةَ النزعة والرؤية والمنهج.
إنّنا نتعلّم هنا أنه لا يحق أو أنه ليس من حق أوروبا الشمالية، المسمّاة زوراً أوروبا أو “العالم الغربي”، أن تحكم الشرق، وتتنرجَس وتُسفَّل. وليس من حقّ أحدٍ أن يعتبر نفسه المركز والمحور أو النبع والقائد، ثم أن نعدَّ الهندي أو العربي أو المسلم أو الشرقي بعامة شيئاً أو متاعاً، ومستلحقاً وتابعاً. فقد هَدَر الغربي المستعمِر حقوق الإنسان المستعمَر أو استلب المبشِّر والحاكم المستعمِر كرامةَ الأمم والشعوب المُستضعَفة، وحرياتها، وتحكَّم بأقدارها ومسارها وبمستقبلها وحضارتها السائرة الحيّة.
3- لمحة تاريخية
ظهر أول بحثٍ جامعي عن الفلسفة الهندية في مجلة “دراسات” التي كانت تصدر عن كلية التربية في الجامعة اللبنانية. وكان البحث بعنوان: “مدخل إلى تاريخ الفلسفات الشرقية” بتاريخ 1974 (دراسات العدد 2، صص 5 –27). ثم صدر مقال ثانٍ في المجلة نفسها من العام 1975 (العدد الأول، صص 17- 54). وبعد ذلك ظهر كتاب “الفلسفة في الهند” في بيروت (دار الأندلس، 1980) حاوياً على هذين المقالين المذكورين، وعلى ترجمةٍ لمقال شارل فَرْنر (Werner) عنوانه: “الأثر الشرقي في الفلسفة اليونانية”. كما حوى أيضاً كتاب علي زيعور على دراسةٍ للفكر العملي وللفلسفة النظرية في الهند، وكذلك على نقدٍ للقول العربي الأوروبي عن معجزة يونانية وإغفال ثم طردٍ وتضئيل للفكر الشرقي، وللهنديات.
الإقرار، ديموقراطياً وبالتالي عقلانياً، بمقعد فلسفي راسخ أو غير مكين للعقل الهندي، إقرار في ذات الوقت بأنَّ الفلسفة في العالم والتاريخ ليست احتكاراً أوروبياً أو وريثاً مدللاً للخطاب اليوناني العربي اللاتيني. ونقد الفلسفة الغربية لم يكن فقط بسبب نفيها للآخر، ولم يكن فقط لفرط تمركزها حول ذاتها وحول “نبوغها” وأساطير امتلاكها للحقيقة والعقل وللسياسة الديمقراطية والحرانية (الليبرالية) وحقوق الإنسان… بدخول العقل الهندي إلى الدار العالمية للفلسفة والعقل الكوني خفُت وخمَدَ القول بأن لا فلسفة إلا في أوروبا. ينتقد المستهنِدون تلك الفلسفة الأوروبية لأنها أقصت الشرق عن عالم الأصالة والعقل المجرّد والأفهومات الفلسفية العالمية الكونية.
ومؤخّراً ربما رفض العقل الغربي الراهن أن يُمنع دخول الهند إلى عالم الفلسفة الراهن المؤسّس على الخطاب الوثني الإسلامي المسيحي.
أخيراً، لقد ضيَّق الأوروبي ميدان الفلسفة، واستبدَّ؛ أي أن الأوروبي حجبَ العقل الهندي أو همَّشه وغَبَنَ حقه داخل المسيرة الكونية للفلسفة في العالم والتاريخ وللمستقبل.
4- محاكمة قطاع اللافلسفة والطب الشعبي والآدابية
الطب الهندي كما العودة إلى الطبيعة والتداوي بالأعشاب والطب البديل، موضوع رائج تعرضه وسائط الإعلام الجماهيري بكثرة ومعروضاً في كتب متشابهة ورتيبة قد يُظن أنها موجهة بنظرة “دينية”،وانبهارٍ بعقيدةٍ هندية وتخيّلاتٍ شعبوية. وفيما يلي أمثلة على ذلك “العلم” السطحي وفاقد الفعالية:
أ/ الورد: طعمُهُ مُرّ وحرٌّ منعِش. نافع لأوجاع الرأس والحلْقِ والعينيْن(1).
ب/اليانسون: حارّ وحلو. يهدئ المزاجيْن الهوائي والمائي. ينشِّط الهضم… (2).
ت/آداب الطعام وكيف نأكل (م. ع، صص 409- 470): ومن مراجعه المعتمدة: ماري نقوري ومريم نور، وأ.ب. يعقوب عن الأمثال الشعبية اللبنانية، والصحف الموسومة بالشريعة الروحانية في علوم اللطيف والبسيط والكثيف (ولا نعرف كيف حصل أو هل فعلاً حصل على هذه الصُّحف “وهي بالغة السِّرية ويقال: إن كمال جنبلاط هو الذي أدخلها إلى خلوات التعبّد الدرزي التوحيدي).
ث/معجم الأمراض ومداواتها: طنين الأذن: ضعْ ثلاثة (!) نقاط من زيت كبش القرنفل في الأذن (م.ع. ص 662)؛ وجع المعدة: عصير الزنجبيل مع العسل (ص 680). القلْب: ينفع أمراض القلب ملعقة صبحاً ومساءً من الهال، مع الزبدة المنقَّاة (ص 679).
5- أدب الحياة أو الآدابية الشعبية: كما أنّ أستاذنا المعلم زيعور، في تدريسه الجامعي، أسقط كلياً وباستخفاف كبير إدخال الطب “التلفزيوني” (الطب البديل أو الأعشابي) مؤكداً أن لا علاقة للعلم والفلسفة والعلاج النفسي، أو للتصوف والروحانيات واليوغا، بذلك “الطبّ” السحري والميثولوجي والرّجعي. وإلى جانب هذا الطرد والإبعاد – دفاعاً عن العقل والمنطق وخصائص المعاصرة وحضارة العلوم الثائرة – حارب زيعور في محاضراته الجامعية، وفي معاينات عيادية نفسية، أصحاب ومروّجي هذا الطب وعقله؛ وفضح مطموراتهم اللاعقلية وترهات خطابهم المتخلِّف والذي يتقاطع مع رغبة أيديولوجية بإبقاء العقل العربي محكوماً بالمتخيَّل والخرافي والقيم الزراعية، وبالعقل السحري واللاسببي والاعتباطي، وبالاستسلام والتواكل ومعاداة المعاصرة والحداثة والأنوارية (1).
5- الفلسفة الهندية من كمال جنبلاط إلى علي زيعور فالمدرسة العربية في الفلسفة
تَعدُّ المدرسة العربية في الفلسفة كمال جنبلاط بمثابة البطل الذائب في الهنديات، أو في الاندماج الروحاني المطبق، وفي التماهي الذي يلغي الفروق والتخوم بين الهندي والموروث الروحاني المحلي، بين الهندوسي (البوذي، بخاصة) والإسلامي، بين الهندي والعربي. هنا نذكر أن جنبلاط ترجم أوبانيشادات معدودة الصفحات لكن عميقة جداً في التعبير الدقيق عن قمة الروحانيات الهندوسية(2).
لا تعاد إلى القول الفلسفي آراءٌ وتماهياتٌ تنْقل إلى لبّ الذات فكر الهند وعقلها وروحها التعبُّدية وممارساتها اليوغاوية. وذلك ما ترفضه الشخصية العربية والإسلامية والعالمْتالتية كما الحياد الحضاري؛ سيّان أكان ذلك في الموقف من الهنديات أم من الفلسفة الغربية الأوروبية.
هنا نعود إلى المعلِّم علي زيعور الذي يُعدُّ استمراراً لكن نقدياً لكمال جنبلاط، أي رافضاَ لاعتبار الهنديات ديناً جديداً أو المطلق، والعقل الروحاني المسيطر والأسمى. ويتابع زيعور مطالباً باحترام معنى الذات العربية والتراث العربي الإسلامي، بل والخطاب اليوناني الإسلامي المسيحي نفسه. كما يرفض زيعور، متأيّداً بأستاذَيْه عمر فرّوخ وعبد الله العلايلي، مقولات الإشتراكية الباطنية والعرفانية. هنا زيعور يورِد فرّوخ في قراءة للفكر الباطني الإسلامي كالإسماعيلية والقرمطية والفِرق الأعمق إيغالاً في الاستسراريات والهرمسيات والغنوصيات، أو في النوراني والشعشعاني والتأويل المغالي المنفلت. ومن هنا يستنتج أنَّ الفكر الاشتراكي الباطني منتوج شبه علمي وخطاب غير دقيق في تنظيم المجتمع والاقتصاد والمدنيات؛ لأنه لم يتعمَّق كفكرٍ نقدي وعلماني، حر وغير أيديولوجي.
5- خلاصة الخطاب العربي الراهن في الهنديات والغرب.
الفلسفة العربية الراهنة استوعبت وتخطّت – بمرونةٍ واحترام – خطاب العقل الغربي الرافض للإقرار بحق الفلسفة الهندية في احتلال مقعد مكرَّس؛ أو المشكِّك بكونها فلسفةً عقلانيةً وعلمانية منصبّةً على التنظير المجرَّد في “الأعمِّي والأشملي”، وفي المقولات والمفاهيم والعلل الأولى والماهيات واللامتغيرِّ الخالد.
ووسَّعت الفلسفة العربية ميادين الفلسفة، وبالتالي وسَّعت المدى للدار العالمية في العقل والإنسان والميتافيزيقا؛ وكرَّست ميداناً مستقلاً مُفْرداً للفلسفة الهندية، وجلعتْ من الفلسفة الهندوسية – الإسلامية قوام الجناح العربي الهندي للذات العربية وللفلسفة الإسلامية الموسَّعة المعاصرة.
هنا تُعيد المدرسة العربية الراهنة النظر والنقد في التجربة التراثية للإسلام والعرب مع الفكر الهندي وحضارته وأنساقه وأجهزته، بحيث يُعاد الإدراك والتدقيق في البيروني، وجماعةٍ من مؤرِّخي “طبقات الأمم” الذين وصفوا وحلَّلوا الهنديات على نحوٍ إيجابي تأخَّر عن آخر القرن التاسع عشر كيما يصل ندّه عند الغربيين.
6- ضميمة أولى: مصطلحات ومفاهيم.
الهنديات (الهندياء) والاستهناد:
هنا تُعْتمد كلمة هنديات، بمعنى دراسة ما يتعلَّق بالهند من فكر وفلسفة وثقافة، على وَزْن نبويات = علم النبوة؛ سياسيات = عِلم السياسة؛ اقتصاديات = عِلم الاقتصاد؛ حضاريات = علم الحضارة؛ فِكْريات = علم الفكر… والفكرانية.
وتُعْتمد كلمة مُسْتهند توضع للدارس في مجال الهنديات.
وأدْخلتْ إلينا الفلسفة الهندية مصطلحات ومفاهيم مخصوصة مميَّزة؛ منها: النرفانا، اليوغا، الغورو (المعلّم)، ألـ أرشي (الحكيم، المعلّم)، الأنساق الفلسفية الستة، الموكشا (التحرر)، نظرية الفراغ أو اللاشخصية (اللا أنا)، البهاكتي (المحبة)….
7- ضميمة ثانية:
صدر كتاب “الفلسفة والنظرية في النهند والصين”، للمعلّم علي زيعور، عن دار النهضة (بيروت، التجديدة السادسة، 2006). ينْصبّ العمل على اهتماماتٍ بالقول الفلسفي العربي الراهن في قراءةٍ للعقل الهندي تأخذه مُدْرَكاً على قدم المساواة مع العقل الغربي عبر الفلسفة، والفكر اليوناني، وصناعة المستقبل البشري.
ويعتنى الكتاب بمنفعةِ الحوار مع الهندوسيات، وكافةِ الأديان “المشرِكة” أو العملية، كالصين وغيرها. كما ينتقد المستهنِدين والمركزانية الأوروبية المعاصرة، أو منطقها التهميشي لفلسفات الآخر وعقله، ولحضاراته المتغاذية والمتناضِحة.
ويُبرز كتاب الفلسفة الهندية أنّ اليروني استمر طيلة أكثر من ثمانية قرون أكبر اختصاصي هندياتٍ في الشرق وفي أوروبا. أمّا الأهم فهو أن المؤلِّف، وهو أستاذ التحليل النفسي والعلاج النفسي، كشف عن علاجه لشخصيات وحالات طبقاً للأساليب الهندية.
أخيراً، يشدّ المعلّم زيعور على أن لاكان (Lacan) تراجع عن التحليل النفسي الفرويدي، وانشق على نفسه مختاراً لها نظرية يونغْ أو الروحانيات والإيمان والتصوف. كما يشكف زيعور أن لاكان عالج نفسه، في لبنان، 1973، باعتماد “الروحانيات والتأمّلات الهندية”. ويؤكّد زيعور معرفته الدقيقة بأن لاكان (Lacan) كان عُصابياً، وأُصيب بمرض نفسي لاحق – هو “فقدان العزيز” – بعد خسارته لابنته في حادثة سيْر.