المدرسة العربية في فلسفة التربية
النظرية الفلسفية التربوية عند المحلل النفسي علي زيعور
– التربية وعلم نفس الولد في الذات العربية – من التربيتَيْن الينبوعية والاجتهادية إلى التجربة الجهادية.- (موسوعة التربية والعقل العملي في الذات العربية عشرة أجزاء).
العمل الذي يعنينا إذنْ هو فكر تربوي آدابي نفساني. يحتوي الكتاب الرئيسي على ثلاثة أبواب: – التجربة الينبوعية للذات العربية في التربية. – التجربة الثانية في التربية: التربية الاجتهادية-. التجربة العربية الثالثة في الثقافة والنظر التربوي. ويبدو أن هذا الباب الأخير على قصره نسبياً (68 صفحة من أصل 520) هو الأكثر أهمية إذ يحتوي التربية المجاهِدة، والتربية الجهادية، والأيديولوجيا المجاهِدة، والوعي التربوي المجاهد، والثقافة المبدعة. وكلها بحوث تتناول الصيرورة والسبيل الصحيح لدراسة الثقافة والتربية والتنشئة النفسية الاجتماعية.
إن الكتاب، على ما يقول المؤلف، حلقة مستقلة سبقتها حلقات, والعمل تكامل فأصبح موسوعة شمّالة. ولم يُرده “مستنفِذاً”؟ أي كأنما المؤلف يعدنا بأن يجعل منه “موسوعة” تتناول “الذات العربية” لا في مسارها الحضاري التاريخي، بل في صيرورتها. والكتاب يمرر الذات العربية بمرحلة التأسيس والنضج (التجربة المنوالية)، ثم بمرحلة الاجتهاد، أي حيث محاولة الاستقلال عن المنوال والأخذ بمناهج التربية الغربية من أجل تكوين شخصية واثقةٍ بذاتها وناجحةِ التكيّفِ الحضاري وأصيلة. ويبدو أن محاولة الاستقلال هذه اصطدمت بعقبات، بل بهجوم معاكس أراد تحطيمها، فانبرت تجاهد وتكافح لا من أجل الأصالة والاستقلال فقط، بل من أجل البقاء والصيانة والاستمرارية الحضارية.
ومنذ الصفحات الأولى يوحي لنا المؤلف بإيمانه بشيءٍ ما عالمي يسميه “ذمة عالمية” لا تعترف بحدود الزمن ولا بحدود الفضاء. إنها “حضارة أمم”. إنها حضارة الإنسان المطلق التي قامت علي “التعلّم” وعلى “التراكم” وعلى التطور القابل للتناقل. فالذات العربية “كافَّتية”؛ أي إنها منفتحة على البشر “كافة” وتؤمن بعالمية الثقافة.
و”موسّعة التحليل النفسي الإناسي للذات العربية” تهتم بالوضع الثقافي للذات العربية مستقبلاً “فالصورة المثالية للمستقبل مبذولة رخوة في الوعي الراهن” . وكأنما الواجب يقضي بثبيت الصورة عن طريق الثقافة: “وهكذا يتراكم في الفعل الثقافي تعزيز العلوم، وما هو عقلاني، والإيمان بالتجريب والتجديد… فالأولوية معطاة للعلمي والتكنولوجي، وللتربية المستقبلية.. وللبحث لا للذاكرة، والتحرر لا التبعية، والاستباق لا المسايرة…”. وهذا لا يتم بدون جهاد: “لأن الجهاد الثقافي يسير باتجاه تغليب العلوم الطبيعية، والمناهج البحثية، والحقيقة الموجودة أمامنا لا في الصدر ولا وراءنا…”. ولا يقصد المؤلف التنكر لعلوم الماضي بل تسخيرها للنظر إلى الوجود مستقبلاً. ثم يشير إلى أهمية علوم شتى تخصّص بها المؤلف “كالتحليل النفسي، والسلوكات اللاسوية للطفل”، و “التحليل النفسي لظاهرة المدرسة والمدرّس والتدريس… وغيرهما. ثم يقول بهذا الصدد: “أفليس الفعل العربي بحاجة أولى إلى التشديد على أن لا أولوية إلا للمذاهب العقلانية، وللنضالية الحضارية، والتحرر من المعيقات والشادات إلى أسفل؟”.
“كذلك تفرض علينا التربية للمستقبل، التربية لكي نبقى ونستمر، طَّرْق مشكلة وعوامل عدم التحقق للمأمول، أو الهوة التي استمرت فسيحة بين شطري القائم والمايجب”. وعن المعرفة يرى المؤلف أن المعرفة قوة بذاتها؛ فالمعرفة والقوة متلازمتان. “إن سياسة القوة في الثقافة، توازت، في تطورات أمة (الألمان) بسياسة العالم (الكون). فمن أراد القوة لنفسه ومن أراد القوة للعالم فسبيله الثقافة. أما التربية فيوليها المؤلف عناية لأن “دراسة التربية تنفع في التعرف على ظواهر نفسية اجتماعية كثيرة”. وإذ ترتبط التربية بالقيم فإن المجال التربوي يطل على “الما يجب”، على الوعي الأخلاقي. وإذن فالتربية سياسة وتدبير وإصلاح خلل وتعاملية ناجحة. “فالأصح هو أن ننقد النظرية التربوية داخل العقل العربي… فليس كل ما قيل صالح أو ما يزال صالحاً… التاريخ ثروة وإثراء، ولكنه ليس المطلق….”. مرفوض هنا المنهج الذي ينطلق من مرتكزات مسبقة. فلا قيمة للتحيّز والانشداد إلى الماضي بأوهام. ولا يجوز إغداق المدح على النقاط المضيئة… لتقديمها على أنها ما تزال فالحة في “الذمة العالمية” للتربية الراهنة المستقبلية.
القراءة الكلية والقراءة ذات المستويات المتعددة للظاهرة التربوية ركيزتان حاول المؤلف أن يقيم عليها عمله. فهو ينظر إلى الظاهرة التربوية وإلى الفلسفة التربوية من خلال المجتمع… فالتربية عند المؤلف هي إحدى الأدوات الأفعل في الإعداد للتغيير وللتكيُّف الخلاق… ولإشادةٍ توليفية منفتحةٍ.
I – التجربة الينبوعية للذات العربية في التربية
تبسَّط المؤلف تحت عنوان التجربة الينبوعية في عرض المواضيع التالية:
– التجربة الينبوعية للذات العربية في التربية. – مصطلحات الفكر التربوي المنوالي وميادينه. – المُنظِّر السباق: الجاحظ. – النظرية التربوية عند ابن سحنون والقابسي. – التربية والنظر المنوالي عند السمعاني. – آدابية الطلب ونفسانية الولد عند الزرنوجي. – ترابط الآدابية وعلم الطلب في القرن الثامن: السَبَكي. – تصلد [جمود] الصناعة [الفن] التربوية، وإرهاصات [أساس] الدوران حول الذات. – صياغة آداب الطلب ونفسانية المتعلم في أجموعات ترويجية. – التربويات وعلم نفس الولد في المدرسة الفلسفية. – المدرسة الاجتماعية في التربية والسياسة المنزلية والثقافة. – حمّالون آخرون للفقه التربوي: التقمّص الثقافي التربوي. – طريقتا المغَصن والأرْسومة في تقديم الوعي التربوي. – علم نفس المتعلم وحقوق الولد في التجربة الينبوعية. – محاولة محاكمة: نقد واستيعاب تجاوزي.
يقصد المؤلف من هذا الباب الغنيّ بالأفكار التي تستجمع الماضي التربوي العربي الإسلامي أن يحاكم التربية المنوالية، باعتبارها شيئاً موضوعياً قائماً “هناك”، أي في الماضي البعيد. إن التجربة التربوية هذه، المنوالية قد عجزت عن تجديد ذاتها وحقلها فتصلدت، أي أصبحت كالصخر الأصمّ وفقدت ضراميتها “ووقعت في العُصاب” (ص 351).
في المرحلة الأولى استوعبت التجربة العربية الإسلامية “الذمة العالمية” للفكر وأصبحت بعد ذلك “الدار العالمية للحضارة” متمثلة فيها. فاستوعبت الماضي والحاضر وما فيهما من فكر وحضارة وتربية وتفوقت عليهما. ولكن المسار توقف. وحملت أوروبا المشعل.
وبدت التربية في مهدها العربي الإسلامي بشكل “مدارس” متداخلة تبادلت التأثر والتأثير، وكونت شخصية أو “ذاتاً عربية إسلامية” متميِّزة. والتفاعل بين المدارس لا يعني ذوبانها وانصهارها في واحدة. لقد بقيت لكل مدرسة خصوصياتها. فالمدرسة الفقهية مثلاً على اتساع قاعدتها وعلى قربها من مشكلات المجتمع وتراتبية الجماعة، وانشغالها بهموم الإنسان الدهمائي أو ابن العامة، لم تستطع أن تبتلع (أو تطغى على) المدارس الأخرى.
وبرز الفقهاء كمربّين كتَّاباً موسوعيين، غير محبوسين بالمواضيع الدينية الصرفة. لقد كان الفقه يعتني بكل العلوم: فإلى جانب العلوم الدينية هناك العلوم الوضعية وما تتطلبه من تجريب ونظر واستدلال. هذه النظرة للعلم من حيث طبيعته حتمت إيجاد طرائق ومناهج لدراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية. أما الموقف التحليلي من هذه الطرائق فلا يبدو موضوعياً، فغالبية الدارسين تقع إما في المديح أو في الهجاء. “والحالتان انفعاليتان، لا تنمان عن دراسة الظواهر داحل حقلها التاريخي. وسبب هذا الانحراف أن الفريقين يبدآن من الحاضر: إنهما يُقلعان من أرض الزمن الراهن، ومن “أفكارية لا من التاريخ” “فالوضع الآني هو المنطلق في رؤية الماضي، وهمُّ بناء المستقبل، وفق صيغة معينة هو المعيار المتخذ للحكم على هذا الماضي. ولذا تأتي الأحكام جائرة. في حين توجد طريقتان للوصول إلى الموقف المتزن: إمّا تنبّه الكُتّاب، وإما تجميع الحسنات وتجميع النقائض ومن ثم المقارنة بينها”.
لقد غذّت التربية الينبوعية، التي كوّنها الدين الإسلامي والتجربة التي رافقته في التعامل مع الحضارات آنذاك، أهل العمل والنظر. وتجسّدت تلك التجربة الينبوعية في أنساقٍ محكمة عاكسةٍ لفهم معين للانغراس في الوجود. ما يزال ذلك النمط الينبوعي غنياً يساعد على شحن الطاقة ويمنع من الانفلات ومن الانقياد.. وتميزت التجربة الأولى في التربية بأن المجتمع كان قوياً والأفكارية (الأيديولوجيا) قائدةً فعالة.
بحكم ذلك كان الفكر اقتحامياً تحدّوياً. فالقوي يأخذ بلا وجل، ولا يتهيب من “الانتفاع من كل مصدر. والاجتياف (من أدخل في الجوف) والامتصاص كانا هنا عامليَّ تحصين وتحسين. وهكذا كان المجتمع، والفكر، لا يتوقفان عن التعلم والتطور الذاتيين. وذاك أيضاً كان حال التربية. فقد كانت ترى الإنسان كائناً يتعلم باستمرار بغض النظر عن مهنته ودوره وعمره ومنزلته.
ومن جهة ثانية فإن الوعي التربوي، على غرار الأوالية التي كانت تتحكم في المجتمع والفكر العام، كان يوحّد المعارف هاضماً متمثلاً الروحي والزمني. ومن جهة ثالثة فإنه كان أيضاً وعياً يصقل الذات بجعلها مشدودة إلى الروحي، فيأخذ أفعالها كانعكاس لمبادئ روحية منفتحة على المطلق.
يعني هذا أن الفعل حركة بين قطبين هما الواقع والمطلق. وأن التربية سعي مستمر للارتفاع بالوضع صوب المثال و”الينْبغي” (ص 36).
تلك هي بعض المبادئ التي حكمت التربية المنوالية والتي بقيت ثوابت قادت الفكر في “صناعة الإنسان” ورسم صورته المثلى أو “الماينبغيات في السلوك والقيم والنظر”.
والمدارس الثلاث المسيطرة في التربية المنوالية هي: المدرسة الصراطية، أي مدرسة الأكثرية حيث مخزن أماني الجماعة والمجتمع والوعي الجماعي وحيث النزعات الاستمساكية والتوافقية والتكتلية. وهنا يقرأ المؤلف الخطاب التربوي في شخصيات كثيرة يمثل الجاحظ القمّة الزمنية الأولى منها. كما يستعرض شخصيات أخرى على شكل أرسومة تارة وعلى شكل مغصنات تارة أخرى.
أما المدرسة الثانية، وهي مختلطة بالأولى وقريبة منها، وهي المدرسة الصوفية، فتتوجه هذه المدرسة إلى المتعلم الذي يود أسلوباً معيناً في الحياة، ويختار بنفسه الطريق ويلجأ إلى شيخ… يكابد المتعلم أو المريد أو السالك، ويجاهد طلباً للكشف والمشاهدة أو للفناء والبقاء.
أما المدرسة الاجتماعية، وهي مدرسة تأخذ عن المجتمع الظاهرة الثقافية وتهتم بالكل أي بالدولة وبالمجتمع وبالحضارة والتاريخ، فتدرس الظواهر مرتبطة ومأخوذة ضمن ذلك الكل الحضاري.
وبعد عرض للمدارس تطرق المؤلف لبنى المدرسة الفلسفية. فقد كان الفلاسفة العرب والمسلمون يهتمون بالفكر التربوي. فكتبوا في سياسة الولد بتفصيل إنما متأثرين بالفقه في صياغته لطرائق التدريس ومشكلاته في مجال الحديث والإملاء والإفادة. ولكنهم لم يقدموا رأياً في تدريس الفلسفة من حيث الطرائق والمنهجية. وهذا التصنيف لا يمنع “الرؤية الكُليّانية للتربويات”. ولا يعني وجود الحواجز القاطعة بين تلك المدارس. ذلك أن الشخصية التربوية التاريخية، بحسب د. زيعور، واحدة ذات تجانس واستمرارية وطِباقياً كما قطاعياً، أفقياً كما عمودياً.
وفي محاولة لمحاكمة التجربة الينبوعية أو التربية المنوالية يقول المؤلف: إن الفكر العربي اجتاف المعطيات السابقة وطورها ثم تفوق عليها؛ ولكنه توقف عن التجديد والتجدد. ثم غلبت عليه نزعة التوحيد التربوي، ذلك أن النزعة إلى التوحيد في المعتقد ربما غلبت على التربويين: فقهاء وفلاسفة ومتصوّفة، فحملتهم على التصور بأن التوحيد يجب أن يكون أساس كل سلوك اجتماعي وحتى تربوي. وربما أدى هذا القيد المسبق إلى “تصلد” الفكر وانحباسه في أطر ربما أعاقت انطلاقته.
إن غلبة الطابع الديني طبعت كل العلوم باعتبارها أجزاء داخل المعرفة الكبرى التي هي الدين، إن الفكر “العربسلامي” (ص 356) وإن قام على التوحيد إلا أنه ميّز الميادين التربوية؛ وفرَّق بين المناهج إلا أنه لم ينجح في صهر الوحدة وتحقيقها. لقد انتفع من حركة التبادل بين العلوم وعمل من أجل إقامة توليفية جديدة لا تضيع في الأجزاء؛ ولا تمنح التفاعل بين الأجزاء، أو بين الكلّ والأجزاء.
لقد تميّز الفكر المنوالي بأنه اعتمد في منطلقات العمل التربوي، مبدأ التساوي بين البشر. فهم متساوون بالفطرة، متراحمون منذ الولادة بلا فروق مسبقة تتأتّى من اللون أو الطبقة… كما اعتمد أيضاً مبدأ الاستدامة والاستمرار. فالفعل التربوي تأدّب مستمر، واستفادة وإفادة لا تتوقفان. وارتباط الإفادة بالاستفادة أو الطبيعة التحصيلية والتعليمية معاً صفة أخرى تنبع من الوظيفة والمعنى اللذين يعودان إلى العلم. واعتبر أن التعليم رسالة وليست تكسّباَ. والمعلّم نسخة تتكرر عن المعلم الأول. يقول الغزالي بهذا المعنى: “يجب أن يقتدي المعلّم بصاحب الشرع، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً… بل يعلمه لوجه الله”.
إنّ التربية “العربسلامية” توصّلت، ودائماً بحسب تحليلات المؤلِّف، إلى مكتسبات ما تزال مقبولة في التعليم العالي. فقد كان يحق للطالب أن يختار الدرس الذي يريد، وأن يختار أستاذه، وأن يناقش، وأن يكون حراً في المتابعة أو الانقطاع.
– إنّ العلم ملجوم بغاية نفع البشر. والعلماء كانوا مقتدين بواجب النفع والإفادة وبمسؤولية اعتبارية إزاء الطلاب وإزاء المجتمع وإزاء البحث والتدوين. “فمثلاً مع ابن حزم وصل النظر في التربية إلى درجة المطالبة بإلزامية التعميم، وبتعليم الأميين أو الكبار من النساء والرجال وحتى الأرقّاء.
– إنّ العلم كان يُعتبر أهم من السلطة ومن الثروة.
– والمكتبات العامة والخاصة كانت مثيرة في الضخامة والغنى.
– وفي المعهد كان الطلاب ينامون ويأكلون، ويقبضون الرواتب؛ بل وينشئون ما يشبه النقابة كي تعزز مطالبهم.
– وعرفت المدارس الزِيَّ المدرسي الموحد ومراسم تعيين الأساتذة، والاحتفالات في الدخول وعند التخرّج.
– إن بعض المبادئ التربوية التي كانت متبعة ما تزال سائدة حتى اليوم ومنها أن الولد ليس شريراً بالطبع ولا خيّراً بالفطرة، بل يكون كما يولد أي محايداً؛ ومنها عدم جدوى القهر أو القمع، ومنها أيضاً وجوب مكافأة السلوك الجيد.
إنما من المآخذ، أو من سلبيات المنهج التربوي العربسلامي ما يمكن تلخيصه بما يلي:
– غلبة الصبغة الإنشائية، والكلام الوعظي، والتهويل في وصف دور المعلم وأهمية العلم.
– تكرار الاستشهادات والمأثورات والأسانيد، فكأنّ المسعى الرئيسي صار المحافظة على سلطة القديم والإشادة به والإشادة عليه. حتى أصبح التأليف تجميعاً لا فعلاً ميدانياً ولا تحليلاً للواقع، بل تنقيباً في الكتب القديمة. وهكذا أصبحت التربية تلقينية، أمبيريقية…
– من نقائص التربية المهادية إفراطها في تقييمها لذاتها. وهذا التقييم الذاتي المفرط ساهم في إبقاء التكرارية، وتعميق اللفظانية، والابتعاد عن تحليل العيني المشاهَد والانتفاع من تجربة الآخر ومشاهداته.
– غلبة الطابع التمسكي المحافظ في التربويات النمطية.
– غلبة الغاية الاجتماعية السياسية، ولذا فهي تخدم النظم والمؤسسات القائمة وتغذي فضائل فاترة تزهدية.
– الانطلاق مما هو غيبي توحيدي، والتمركز على الاستدلال بالغائب أو بالقديم على الحاضر وتغليب الثوابت. وقبول السلطة أكثر من مناقشتها والرضى أكثر من المحاكمة، وتغليب الثقافة اللفظية والأدبيات على تحليل الطبيعة والواقع والظواهر.
– قلة التركيز على المهنة والعمل اليدوي واعتبارهما كما كان يفعل علماء اليونان، من الأعمال المنحطة، التي يقوم بها العبيد الأرقاء، في زمن خفّت فيه عمومية الرق، إن لم يكن قد زال تماماً.
– اهتمت التربية المنوالية بمعايير أشهرها: المطلق وتوحيد الروحي والزمني وصقل الذات الداخلية، والخلقي والديني والسلوك المهذب والعلائق الاجتماعية اللائقة – وقيم الصبر وكظم العدوانية والحذر من الناس.
وأغفلت البحث العملياني والملاحظة والرصد للطبيعة المادية في حين حلّقت في الماورائيات. وإذا كانت هناك تدوينات لملاحظات وإرصاد عملياتية للواقع فقد طغت عليها البحوث الماورائية. حتى البحوث الفلكية لم تطور معداتها، لم تستعمل الساعات المتطورة ولا البلورات ولا الكرات والدوائر المعقدة (1) .
II – التربية الاجتهادية
بعد الاستعراض الواسع للتربية المنوالية وتتبعها في دقائقها ينتقل المؤلف بنوعٍ من القفز الزمني إلى القرن التاسع عشر والعشرين. هنا يمكن التساؤل: ماذا حصل للتربية في القرن 16 و 17 و 18؛ فيردّ الدكتور زيعور مقدِّماً لنا طاشْ كبري زاده. بعد ذلك في باب التربية الاجتهادية، وهي التجربة العربية الثانية في التربية، يقدّم المؤلف تعريفاً لها، ثم يستعرض الاستجابة والردود التربوية عند الأفغاني وعبدة؛ كما يستعرض نظرية التربية الثقافية العربية ومستقبلها عند طه حسين.
فيعتبر محمد عبده ممثّلاً لتيارات سبقته أبرز ممثليها الطهطاوي والأفغاني. أما طه حسين فهو تعبير عن أوالية ناقصة غير إيجابية في مسار إعادة الاعتبار للذات التاريخية العربية. وهذه التجربة الثانية في التربية هي استجابة دفاعية؛ إنها رد فعل صادر عن “أنا” قلقة في حقل عدائي. وهي ركض متأرجح بين الشيء السلفي والشيء الراهن؛ بين المنهج الواقعي والمنهج الكُتُبي. في التجربة الثانية صبغة حرارة وردود ناقصة على “اللماذا” الناجم من الوعي بالورائية في هذه التجربة. لم تنته بعد مشكلة العلاقة بين الدين والعلم. وهذا ليس بعيب، الطرح هو المغلوط وفي هذه التجربة انعطفت النظرة إلى الذات، فبعد التعظيم بدأ التحطيم.
أ/ تضخيم الأجنبي وتبخيس الأنا: ماذا يعني هذا المنهج؟ إن نجاح الغربي وتفوقه يضعف معنويات العربي؛ ولإعادة الاعتبار للذات والحفاظ على توازنها، فلا بدّ من عملية تكيّف – واعية أو غير واعية – في سبيل تحقيق نجاحٍ لبلسمة مشاعر الفشل والعجز. هنا يكون في تجريح الذات تخفيفٌ للتوتر وشعورٌ براحة وقتية، كأنما الغريزة الانتقامية تجد ضحيتها. هذا الهدم يقترن بتبني ما يقوله الآخر: بأننا فاشلون وبأنه هو قادر وقوي وعقلاني. في ذلك التبخيس للأنا يُعطى الأجنبي أكثر مما يستحق. يقابل هذه الحالة الإحباطية حالة أخرى معاكسة تقوم على تضخيم الأنا وإسقاط سيئاتنا والسلبيات – بل ورد سببها – على القاهر.
ب/ تضخيم الأنا وتحطيم القاهر: نلتقي هنا أيضاً موقفاً خطابياً انفعالي النبرة والمنهجية يسير في خط مناقض: يضخّم الذات؛ ويحذف منها المثالب بل ويُسقطها على الخصم. نرى أننا خيِّرون والأمة المعادية مَخزِيَّة. وهكذا يسهل الكلام الخطابي والوصفُ والنظر التبريري ومحو الفشل. نقول: إنّ الـ “هم” أخذوا منا العلم والفكر (ابان العصر الوسيطي) ونهبوا ثروتنا (ابّان العصر الاستعماري).
يمثّل الإمام محمد عبده وعي الذات العربية قبيل بدايات القرن العشرين؛ وهو وعي منعكس منصبٌّ على ما كان يسبّب التوتر في تلك الذات، وعلى التحدي الحضاري القادم من الغرب الأقوى سلاحاً وسياسةً أو عِلماً وثروة.
ومحمد عبده شاهد على فهم إحباطات حضارية، ثم َّ على شرحها للإشفاء واستعادة التوازن. وبرزت التربية عنده ناقلةًً إلى المجتمع ما هو مطلوب للإنسان وللعلم. أخيراً، يحاول الإمام محمد عبده الخروج من اضطرابات حضارته، بإنسانها وحقلها ونتاجها بواسطة أداة سحرية اسمها التربية. إن التربية أداة وطريق لكنها لا تكفي لعلاج عمليات التكيّف الحضاري الإيجابي التي كانت متصلّبة. ولذلك فالإمام لم ينجح، إذ بقي في حدود مرسومةٍ مسبقاً؛ وقدَّم نافذةً غير حرة ولا واسعة. قدَّم اجتهاداً لا أنباتاً. فالتحدي كلي وأجمعي. والإستجابة، إن لم تكن كلية شاملةً فهي لا تستطيع شيئاً أمام حضارة “السلاح القوي”. لقد استمرت “قوة السلاح” تزداد قهراً وتنغيصاً للذات العربية.
ب/ يمثّل طه حسين أوالية الرد المتقلّص المنبعث عن وعي للفشل الحضاري، وعن وعي للإحباط. عند طه حسين دعوة لمحو الذات تتم في عملية البحث عن التكيّف وعن التطور. إنها دعوة إلى تكيّف سلبي مع الحقل القوي للتربية والثقافة الغربيتَيْن السائدتَيْن والطاغيتين.
قدَّم طه حسين ثروةً للثقافة العربية. وفي مجال التربية والتعليم انطلق من الواقع المُحبِِط، وتطلع إلى “المايجب” فقارنه بالحال في الدول المتقدّمة. وهكذا ربط التربية بالهموم المجتمعية وبمشكلات الأمة. فنادى بأن العلم سلاح لا يتعارض أخذه مع الدين والتاريخ، وهو لا يتنافى مع الإيمان. إنّ العلم والإيمان قوتان منطلقتان من الطبيعة البشرية الثنائية التكوين، وهما قوتان متعاونتان لتحقيق خير الإنسان وتقدّم الحضارة والحرية والمعرفة. لقد كان طه حسين استقلالي الرأي يدعو إلى حرية الكاتب وإلى استقلالية الجامعة… وإلى ثقافة موحدة للحصول على أمة [مصرية] موحدة، واهتم بالواقع الاجتماعي وبالنظام التعليمي، وبتطوير التعليم والمعلّم والكتاب والمدرسة.. وهو مفكّر مرتبط بمشكلات المجتمع التي لا تجد حلاً، في آرائيته، إلا عن طريق التربية والتدريب الغربيَّيْن. ولذا فقد دعا إلى تعلم اليونانية واللاتينية بأمل أن يحدث ذلك في الأمة العربية ما فعلته الكلاسيكية (أي العودة إلى الفكر اليوناني الخاص) أيام عصر النهضة الأوروبية في الفكر الأوروبي.
وما هي إنجازات التجربة الثانية؟
رياحٌ جديدة حرّكت فِعل التعليم، وإرادةُ مقاومةٍ أحيت الوعي. مصطلحات جديدة انغرست في اللغة التربوية. وحملت المقولة التربوية توجهاتٍ مخططةً ونظراً واقعي الاتجاه ومناهج تحلل وتوالف وتقارن ثم تحاكم. وهضمت التربويات العلوم وقدمتها للتطبيق والبث وإشاعتها في المجتمع. مستجدات كثيرة حوَّرت وحوّلت. فكان أن فقد المجتمع تجانسه السميك، وتنوعت التعليميات عهوداً وجديداً ومنهجاً. ومع الاهتمام بالمتعلّم من حيث هو كائن اجتماعي، وخفوتِ الاعتباري الصوفي لعمليات التعلّم، برزت منظورات جديدة في الثقافة وعلم النفس قارعت البنى التقليدية للمجتمع فأثرت في الشخصية وفي طرائق المعالجة وتصور الذات والآخر والدار العالمية للتربية. إنّ المرحلة الثانية هضمت العلوم برأي المؤلف، وهذا الطرح قد لا يحتاج إلى إثبات. لقد كان القرن التاسع عشر في مصر مثلاً أكثر هضماً للعلوم. ففي أيام محمد علي (1769- 1849) كان التقبل للعلوم أكبر من قرون عديدة مضت قبله.
III – التجربة الثالثة، حول التربية الجهادية
حول التجربة العربية الثالثة في الثقافة والنظر التربوي، يقول المؤلف: إن الاجتهاد التربوي العربي انتقل من الدفاع إلى الهجوم (إلى الجهاد). فالتربية أصبحت مجاهدة، لأنها ترتكز على أيديولوجية جهادية وعلى وعي تربوي مجاهد ومبدع بآنٍ واحد.
لعلّ هذا الطرح يحتاج إلى توضيح أكبر: أ/ إن الثقافة العربية، وأداتها التربية، من جهةٍ أولى، حينما كانت تجاهد وتكافح فمن أجل استيعابٍ أكبر لمعطيات الثقافة الأوروبية؛ إذ لم تقدّم بسرعةٍ الثقافة العربية أي دليل ملموس على تعافيها من عقدة النقص وعلى وعيها لذاتها وثقتها بنفسها، ومن ثم لم تقدم أي إنجاز فكري أو ثقافي أو علمي يدل على أصالة؛ وإذن فجهادها هنا كان جهاد أخذ واستيعاب لا جهاد إبداع وابتكار أصيلَيْن.
ب/ ثم يتابع المؤلف توضيح الناحية الجهادية فيقول بحصول انتقالٍ “من دار التربية الدفاعية إلى دار التربية المجاهدة”. يتناول الخطاب التربوي وقائع وأحداث جهادٍ متشعب، كما في المناهج المجاهدة ثم في الميادين المجاهدة. وبما أن الخطاب التربوي هو جهاد في سبيل الإنسان والجماعة والمجتمع، فيحسن به أن يعطي الأولوية لعملية الجدل بين الإنسان وحقله الحضاري، بين العمل والنظر مما يجعل التعليم وظيفياً والطرائق كونيةُ البُعد ممارَسةٌ وفاعلةٌ في “الدار العالمية للمناهج والتربويات”.هذا صحيح، فالتعليم دائماً وظيفي. التعليم العربي، ربّما تميّز بوظيفية مقلِّدة تريد اللحاق بالفكر الأوروبي؛ ولكنه مشدودٌ إلى الماضي بروابط قوية. إن التراثية لم تضعف في التعليم لأن الجديد الغربي هو في عمقه تلمّسي غير قاطع. وهذا يتنافى مع الفكر العربي الديني الذي لا يريد إلا الكمال المطلق ودفعة واحدة.
وعن المناهج التربوية يقول المؤلف: إنها أصبحت ناشطة لا تلقينية وديمقراطية وجماهيرية وهي تختلف باختلاف المادة والغاية والذات؛ كما هي جماعية المنحى، تعاونية القصد، ديمقراطية المحتوى والعلائق، يتعاون المعلِّم والمتعلِّم في اعتمادها.
إن هذا الحكم على المناهج سليم إذا قورنت المناهج بما كان سائداً أيام الكتاتيب. ولكن هذه المناهج لو كانت مكتملة لما احتاج الطلاب العرب، لإظهار نبوغهم، إلى العمل في مختبرات الغرب ومجامعه. وأمام الجميع مَثّل اليابان. لقد بقي الفكر الياباني مشدوداً إلى التراث حتى نهاية القرن التاسع عشر، بل حتى سنة 1944، سنة الهزيمة الكبرى في حياة الأمة اليابانية؛ وبعدها بعد الصدمة الذرية، استوعب الفكر الياباني التكنولوجيا الغربية بشكل حقيقي وأصيل. وإذا بهذا الفكر ينجز في ربع قرن من الزمن، الروائع التي إذا وزنت بميزان الاقتصاد الماديّ تضع اليابان في المرتبة الأولى أمام الولايات المتحدة الأميركية.
وعن ميادين التربية المجاهدة يقول المؤلف: إن التربية كالهواء والشمس حق للجميع. إنها تربية للكافة: للذكي والمعوّق، للغني والفقير، للسوّي واللاسوّي. وهي “لا متوقفة”. وهذا صحيح في النصوص الدستورية والقانونية ولكن الواقع أمر مختلف. ثم يقول: فالتربية عندنا عمل الإنسان بهدف تسليمه نفسه، أي إنها تهدف إلى تحريره من الاستلاب، إنها قصدانية. وميادين التربية متشّعبة ونواتها العائلة، ثم يأتي دور المدرسة وما فيها من علم ومعارف، ثم يأتي دور المجتمع، وبعده القطاعات التي تؤمّنها السلطة العامة كالصحة والسكن والأمن والحريات والحقوق والواجبات. وأخيراً هناك ميادين القيم والواجبات. إن المؤلف هنا يصور واقعاً مأمولاً، لا واقعاً محققاً. لا شك أن ميادين التربية في الشرق العربي قد حققت تقدّماً كبيراً في القرن العشرين، ولكنه تقدّم لا يكاد يوازي ما حققه الغرب في القرن الثامن عشر. وذاك أمرٌ وصفه المؤلّف ككلٍّ موحَّد ونحن نوافقه تماماً.
والتربية الجهادية تسعى لتحقيق الذات العربية لذاتها، لكي تتجاوز أزماتها وتعبّر عن شخصيتها وهويتها، ولكي تتحرر من الانسلاب للماضي أو من حاضر يشغلها عن وعي ذاتها وإمكاناتها. التربية الجهادية روح ومنهج، نظر وسلوك، أيديولوجيا وفلسفة أنها عدم انقفال وعدم انفلات، “لا انقفال” على الذات و”لا انفلات” بحيث يحتل هذا الآخر تلك الذات، إنها “لا تقمص” و “لا حلول”: لا تقمص للذات بحيث تتكرر متشابهة عبر الزمان؛ ولا حلول للأغيار في الأنا.
وهي تقييد وتحرير: تقييد با “الماينبغيات” المتحرّكة، وتحرير من الاستلابات. فالجهد، والاجتهاد يتزاوجان في التربية الجهادية، جهد في أن يكون الإنسان في جماعته وحقله هو نفسه وليس إنساناً آخر؛ واجتهاد متواصل للفعل العقلي الحر الباحث عن الحقائق.
التربية الجهادية حمْلٌ مُجهد: حمْلٌ للذات إلى خارج حدود الذات، وإلى البعيد عن التمحور الذاتي أو النرجسية الجماعية؛ هي رفض لاعتبار الذات، في مجتمعها وقيمها، كائناً مضخَّماً أو كائناً مبخَّساً “مَخصياً”.
وعن الأيديولوجية المجاهدة يقول: إنها الفلسفة بحق. الفلسفة التي تنقد وتوجّه. فالتربية الجهادية هي التي تجعل الفلسفة هاديها وموجهها: هل تكلم المؤلف هنا عن واقع قائم أم عن أمنية واجبة؟
والأيديولوجيا المجاهدة لا تبعد عن علوم التربية. بل هي في صميم تناقضات الوعي التربوي الجهادي. إنها ثنائية متناقضة [جدلية]. وهي تتمثل في النظام، وبين قطبي الحرية والتقيُّد، الاختياري والإكراهي. إنها ليست كالدين ولكنها ليست بعيدة عنه لأن الدين والتربية لم ينفصلا في الذات العربية. والأيديولوجيا المجاهدة لم تنفصل عن الدين بشكلٍ قطْعي ونهائي أو حاسمٍ وبتّار.
هنا لا بدّ من معارضة المؤلف فيما يقول: إن الدين والفلسفة، لم يتنافرافي الماضي كتنافرهما في وقتنا الحاضر.
والأيديولوجيا المجاهدة تنتفع بمعطيات علوم الاجتماع ولكنها لا تضيع في السوسيولجيا، كما تتغذى من معطيات الذمة العالمية [الحضارة العالمية] ومن علم النفس ومن فنون وعلوم أخرى أقرتها حضارة الأقوياء. وتقوم الأيديولوجيا المجاهدة على أرض الواقع الاجتماعي السياسي؛ ولكنّ هذا لا يبعدها عن ذاتها المثالية وعن تاريخه وتراثها. ففي اللاوعي الجماعي العربي تكمن معطيات توجه الأيديولوجيا في مسارها الجهادي سواء في المدرسة أم في الجامعة أم في مراكز البحوث. إنّ الأيديولوجيا التي يتكم عنها المؤلف موجودة فعلاً، لكنها محكومة للدين وللتراث بشكل قوي. إنّ المسار العام متجه إلى أمام، بكل الأثقال والتناقضات التي أعاقت الفكر المبدع من تقديم ثمرات ابتكاراته على صعيد الواقع العملي، وفي ميادين الإنجازات الجامعية التي شكّلت في الغرب كل البناء التقني والتكنولوجي الدنيوي.
إن الأيديولوجيا قد تعلمنَت في الغرب الأوروبي. لقد أصبحت تابعاً للتكنولوجيا، وما أفرزته هذه من إنجازات…
عن الثقافة المبدعة يقول المؤلف: إن الذات العربية المعاصرة أخذت تعي ذاتها، وتعمل على توكيدها. وقد نجح الفكر العربي الأدبي – لا السياسي – في دحض الانصداء الحضاري. وكانت المرأة عون الرجل في جهاده كما كانت عاملاً مهماً في دحر اللاسوي والمعوِّق. كما أن المناهج أخذت بمبادئ التجريب والتجديد. وأصبح الجهاز البشري التعليمي مجاهداً من أجل طرائق تؤكد الذات وتحررها من الباليات والقاهرات. أتت الثقافة المبدعة عندما انكفأ الوعي على نفسه، وعندما استيقظ على خطر وتهديد. مع هذه الثقافة المشرئبة تفتش الذات العربية عن تنمية مفهوم للذات يكون مقبولاً من تلك الذات، أي مرغوباً، ومبهِِجاً، مصحوباً بالرضى والشعور بالسوية والإبداع حائزاً على احترام الآخرين.
وتكافح التربية المجاهدة لتصفية مشاعر الفشل، من جراء عدم مواكبة الحضارة التكنولوجية، ولتصفية عقدة الانظلام تجاه السلطة والمتسلطين، ولكنها توشك أن تقع في عقدة الاستشهاد (ص 516 هامش 1). إن التربية المبدعة تعرّفنا بتطورات ذاتنا وأزماتها وتسير بنا نحو تنمية النضج الانفعالي إلى ما هو نضج اجتماعي في الوقت عينه؛ كما تزوّدنا بقدرة على التكيّف الإيجابي مع الواقع. وهذا النضج لا يختلف عن الصحة النفسية الحضارية في دنيا التكنولوجيا ومواكبتها الفكرية. ويتم إشباع تلك الحاجة عند استعادة التوازن مع الحقل العالمي أي مع توظيفٍ أمثل للقدرات العربية الناشئة والابتكارية.
والتربية الجهادية فعل اجتماعي ثقافي سياسي تنفذه إرادة أيديولوجية وتقوده الطرائق العلمية والتكنولوجية وتحاكمه الفلسفة النقدية الأُعموية نظراً ومناهجاً وأبعاداً.
IV – النظرية التربوية الجهادية. أُُشْمولة
ليس القصد طرائق في التدريس أو تقسيم السُّـلّم التعليمي أو تكوين المدرّس… بل القصد النظر الشمّال النقدي للصورة المطلوبة للإنسان والمجتمع والمستقبل، وطرائق تحقيق تلك الصورة أي كيفيات التغيير وأهدافه. بدأت التجربة الثالثة في عشر الستين [في الستينات] وجرت محاولات نجحت في إقامة الجسر بين المدرَك والمرغوب، بين الذات الواقعية والذات المثالية.
وتحيل تلك المجاهدات في الأعيان والأذهان يُظهر أوالية الترابط الحي بين الشبع والعلم والتكنولوجيا، بين الوجود والمصير، كما يُظهر عقليمانية حادة واسعة بالقدرة الخلاّقة في الذات العربية، وبانغراس متعمّق متسع لطرائق جديدة في النظر والمعالجة والتقييم، وبعقلنة لا متوقفة لسيرورات التغيير والتربية والإنتاج الإسهامي والتكييفانية، والتصور الإيجابي للحياة والذات والعلائقية كما للمستقبل والتغلّبية الناجحة داخل “الدار العالمية للإنسان والحرية والعِلم”.
يقول المعلِّّم زيعور: “وداخل الشخصية العربية، في التجارب الحضارية الثلاث والتي ليست هي خطية و “لا انقطاعية”، رواسب مترسّخة. فقد بقيت توجهاتٍ عامة، بدرجات مختلفة القرب من الوضوح واللاوعي، تنظم الفعل التربوي في سعيه لتحقيق الطمأنينة. تلك الترسّبات كانت تترجم بمواقف أهمها: 1) امتداح العلم والمعلّم والطرائق العقلانية، على حساب المنهج فكأنه هو المغلوط والفاشل والعاجز؛ 2) التركيز على التوحيد، وإقامة الانسجام، وفرض المثل الأعلى والنظام والترويض على الفرد؛ 3) الدعوة إلى قمع الغرائز، والسيطرة على الذات أو التماسك داخل الفرد والجماعة لمصلحة السياسة. فالمعرفة خادمة السلطة لا أختها أو المساوِمة لها. والحرية منجرحة. والإمبيريقي (التجرّبي) متسلّط.
ويخلص المؤلف إلى القول: من التربية تنطلق الدروب إلى الصحة النفسية؛ وإلى التربية تعزى الإخفاقات أو النجاحات.ذلك لأن التربية بمعناها الواسع أداة التكييف وإعادة التكييف الحضاري الإسهامي والمفتوح.
V – خلاصة القول في الكتاب
الكتاب، من حيث الشكل، مبوّب؛ وهو أيضاً ممنْهَج: فالأبواب متناسبة من حيث الاتساع. فالباب الأول يكاد يضيق بما فيه من معلومات قد تتسع لكتاب بحاله (راجع للمؤلّف: أعلام الفكر التربوي والآدابي ضمن مشروع العقل العملي في الإسلام، عدة أجزاء).
أما الباب الثاني فيتسع بعد لتغطية حقبة من الزمن ربما شملت القرون الوسطى الأوروبية كلها (أي القرن 13، 14، 15، وقسماً من السادس عشر)؛ وأما الباب الثالث فإنه مؤهل هو أيضاً للاتساع ولتغطية تطورات جرت جغرافياً، في جميع أرجاء العالم العربية والإسلامي أيضاً، وتاريخياً عبر القرون 16 و 17 و 18 و 19.
أما مجمل الكتاب فينقصه فهرس للأعلام، وفهرس للكلمات الأمّهات؛ فضلاً عن فهرس للمدارس التربوية. وهناك أيضاً سؤال أقرب إلى التساؤل: هل التقسيم الذي اتبعه المؤلف، في تقسيم الحُقب التربوية العربية إلى ثلاث، هو التقسيم الأقرب إلى الواقع: ألا يمكن جعل هذه التجارب أربعاً مثلاً بأن نميّز بين تجارب في الفكر العربي والفكر الإسلامي، وإن كان أداة التعبير هي العربية…؟ ثم إنّ التفاعل في حياة الفكر، أي فكر، مستمر ودائم، والباحثون حين يقسّمون مراحل الفكر إلى حقب إنما يقصدون التوضيح؛ أو لأنهم لم يطّلعوا إلا على المعالم البارزة فيه، أو لأنّ الاطّلاع الكامل على مسار أي فكر لا يتيسّر للأفراد بل لا بدّ له من مؤسّسات تتابعه؛ ولذا يُكتفى من كل فردٍ بتقديم ما تيسّر له… ويأتي الجواب من المعلِّم (بالمعنى الهندي) زيعور: لقد فتحتُ أبوابَ موسوعةِ التربويات أمام العديد من الزملاء النفسانيين؛ وغيرهم.
ومن حيث اللغة يتشجّع المؤلف على الاشتقاقات اللغوية، وعلى دمج الكلمات. فأحياناً يتوفق، وأحياناً يبدو النحت غريباً مثال ذلك كلمة الذهابيابية (ص 20 وص 516)، وكلمة تؤنفس (ص 26)، وكلمة هَدْفن (ص 512)، وكلمة العقليمانية (ص 516 و 518)، وتلك celle – ci ، وتالك celle – là : على وزن هنا وهنالك. ومن الكلمات المنحوتة المقبولة: العَرَبسلامية (ص 21)، والزمكانية (ص 22)، واللاإنصداء للنحن (ص 517)، والأعمومية (ص 517)…
أما من حيث المضمون فالكتاب غني جداً: مليء بالمعلومات الكثيرة التقنية والعلمية. وهو للمتخصّصين من الطلاب والمثقفين البحاثين لا للعامة؛ كما أنه أداة بحثٍ لا أداة تسلية. ثم إن الكتاب قد لا يحتاج إلى تحريره من بعض الأساسات التي بُني عليها. فقد أعاد النظر والتأهيل ثم التأسّس على مفاهيم وأعلامٍ جُمعت ورُبطت فيما بينها، فبدت الأربطة غير مصطنعة. وأخيراً لا بدّ من القول: إن المؤلف يغلب عليه، أحياناً كثيرة، عطف الطبيب النفسي الشفيق، الأمر الذي يبعد به عن موقف الناقد المجرّد: إن الذات العربية لا تستحق كل هذا العطف. فالحقيقة يجب أن تقال. أخيراً إن الكتاب يشد بأفكاره المكثفة التي تجعل القارئ في يقظة مفروضة. فحاله كحال راكب الصعبة، دائماً في حَذر خشية الوقوع أو خشية الشرود.
والكتاب لا يُقرأ في لحظات الاسترخاء أو التعب، كما أنه جزء من مشروع متكامل الحقول والطرائق والمقاصد. ثم هو حتى قبل أن يكتمل، وحتى قبل أن تشتدّ أوصاله أو تُسدّ الثغرات الزمنية يؤسِّس مدرسةً تربوية متماسكةً وأكاديميةً بالرغم من غياب الشخصيات التي أهملها أو “التجارب” الأخرى التي لم يأت على ذكرها. وقد يشعر القارئ كأنما المؤلف ترك في مشروعه فراغات أو ثغرات مقصودة لتكمّل فيما بعد. وفي ذلك الكتاب تختلط الأماني المرجوة بالوقائع حتى ليشعر القارئ بأن المؤلف أبٌ لا يحبّ أن يقسو في حكمه على بنيه، بأمل أن يعّلمهم الدهر؛ ولكنّا نحن بحاجة ماسة إلى القسوة في كشف الانجراحات، في التشخيص لأمراض التربية؛ وإلا فإلى متى؟ هذا! وعلى الرغم من ثقتنا بأن المؤلّف يؤسّس تشخيصاته، وعلاجاته، على ما يسميه بالمعاينة الطبيبية أي حيث العيادي النفسيّ لا يهمل السويّ والناجح، ويتحرك تبعاً لعلاقة تفاهمية واحترامية بينه وبين المستشير النفسي أي الصابر (الزبون، “المريض”، المفحوص، طالب العلاج والباحث عن تقليص التوتر).
VI – المدرسة العربية الراهنة في فلسفة التربية
عبر “مشروع العقل العملي في الإسلام”، أو عبر موسوعة أعلام التربية داخل الحكمة العملية في الإسلام، كرَّس المعلِّم علي زيعور ما أطلق عليه، منذ بداية مشروعه، المدرسة العربية الراهنة في التربية (فلسفتها، الآدابية، علم الطرائق التدريسية، التعلّم والتعليم، التّمدْرس…). ولقد صارت تلك “المدرسة أو النظريات العربية” شخصيةً مستقلة ومكرَّسة.
فنحن في بدايات هذا القرن نعتمد التحليلات أو التشخيصات والمعاينات التي قام بها المؤلِّف للتجربة التربوية والتعليمية التي حقق فيها العقل العملي العربي نجاحاتٍ ومكتسبات. ولعلّ الباحث المعاصر في فلسفة التربية، وما إليها من حقول ومفاهيم وشخصيات إنتاجية، ينتفع كثيراً من الإسهام في التشخيصات والنظرية العلاجية التي قدّمها المعلّم علي زيعور، أستاذنا (في الجامعة اليسوعية) وشريكنا في ترجمة عدة كُتُبٍ جامعية.
الدكتور علي مقلِّد 2008
(1) – ثمة ملاحظات أخرى يوردها المؤلِّف حول فلسفة التّربويات الإسلاميةعند أعلام العقل العملي كالقابسي وابن جماعة…، وابن سينا، والطوسي…