تكرّس القولِ الفلسفي العربي أو إسهاميته وضراميته
أحمد ماجد
وقفت الذات العربية مرات عدة أمامه، خضعت للتحليل والتقييم، حاولت معه أن تعود إلى توازنها في قطاعاتٍ عدة، من التصوف والتكيّف الحضاري إلى قطاع البطولة والنرجسية … حتى كادت أن تفضح سرها على يديه، وتبوح معه بانجراحاتها التي نتجت عن وسواسها القهري، الذي نتج عن سنوات طويلة من الخضوع وفقدان التوازن.
واليوم، يطل علينا من جديد، من ناحية فلسفية،_ لم يغادرها في يوم_، ولكنه تسلل منها، ليسأل في زمن الضباب، حيث كثر اللغط عن القول الفلسفي في الحضارة العربية الإسّلامية، فمن قائل عن عحز عربي_إسلامي، إلى ناظر من كهفه إلى صورة الآخر، فرأى الظلال الكبيرة فشعر بصغره دون تساؤل، يفترضه عقله الفلسفي، إلى متغرب في صحراء التيه، فقد كل تاريخه في القول، فتصور أنه لم يقل يوما في تاريخه، فأنكر الفلسفة، ونفاها عن ذاته، وتطهر منها، وجلد كل من حاول أن يخرج من خلف الستار؛ ليقول له “أُنظُر تَعلَم”.
خرج إلى ساحة القول
لكي ينظم سؤالاً، إجابة، لكي يعيد تركيب الكلمات.
يطرح الدكتور علي زيعور في كتابه” النظريات في فلسفة الوجود والعقل والخير” الصادر عن دار النهضة العربية، عام 2006ومن خلال 469 صفحة، سؤال الفلسفة، يسعى للإجابة، من خلال تقدبم وإبانة وأربعة أبواب، تستقرىء القول الفلسفي بكل تفصيلاته، فيدخل إلى خصوصيته، يفتش في أوراق الفلاسفة! أو من قال “فلسفة”، فيقيمها ويقومها، ليظهر قوامها، وهو لا يتعامل مع هذا القول كناجز، تحول إلى ورق وحبر، وأذن لنفسه أن يرتاح، لكنّه آثر التعامل مع هذه الأعمال كمادة أولية قابلة للسؤال والمساءلة، فتحولت إلى مادة أولية، تُظهر حركة الفكر، بل لا المفكَّر به، حولها إلى رائز ينظر فيه فيرى من خلاله حركة الفكر وأزمته.
ما هي الفلسفة؟
يبدأ الدكتور علي زيعور بطرح إشكالية القول الفلسفي العربي، فيجيب بسرعة على سؤال ماهي؟ وقولنا سرعة تُظهِرُ استحضاره للمتن من أصله، لذلك، يرفض الخوض في التعريفات المتناثرة، التي تخضعه لأهواء الذات العربية المتشظية، يعيد ربط التعريف بالأصل الذي نبعت منه؛ ووجدت استقرارها لديه، فانتجت نهضة فكرية في القرن الرابع الهجري، وكأنه في هذا التعريف”محبة الحكمة” أو صداقتها أو _بحسب الفلاسفةالمسلمين والحكماء الإلهيين_طلبها، طلب الحكمة لذاتها ومن أجل ذاتها.
فالدكتور”زيعور” ينطلق من رؤية فلسفية ترى الفلسفة عمليةً تراكمية، نشأت في أحضان الحضارة العربية_ الإسلإمية واستفادت من التراث الإنساني منفتحةً على العقل اليوناني من جهة، والفلسفات الهندية والفارسية من جهة أخرى… فكانت صورة لعقل تعلمن، فكان مَعْلماً، لم يقف عند تخوم حضارة معينة؛ فيعلن انتصاره وانغلاقه على مقولاته… إنما كان منفتحا على الإنساني، لذلك، وجد استجابة فاستمر فاعلا حتى خارج حضارته، التي نما فيها.
فالفلسفة العربية_الإسلامية، لم تكن رخوة_ كما يشيع االبعض_أو ضعيفة في أي لحظة من تاريخها، فهي تفاعلت مع الموروث القادم إليها من غربة همشتها أو حاولت ذلك، ولكنها سّوغت هذا الوافد إليها، جعلته ينطق بلسانها، يعبر عن ذاتيتها، أعادت انتاجه، فكانت هي هي، صورة الفلسفة على حقيقتها، تنطق بالعربية، وتعبر عن ذاتها مع الحفاظ على كيانها المتفرد، الذي لا يشبه السائد في العلوم الأخرى، التي تزخر فيها الحضارة العربية_ الإسلامية.
من هنا، حافظ على التقسيم المتعارف للفلسفة، وقسمها إلى قسمين: نظري: حيث تغدو علوم الفكر، والعقل، واللغة، وهنا تكون؛ علم المنطق وفلسفة المعرفة، وتتميز نظرتها بالشمولانية والعقلانية والواقِعنية في التغيير المعرفي.
وفي الجانب الآخر، العملي: يهتم بما يجب وينبغي أن يكون عليه الإنسان، وهنا نعتني بالنظريات الأخلاقية المتراكمة والمتعاقبة عبر التاريخ للفلسفة في تجارب العالم أو الأمم؛ وليس فقط عند أمة واحدة أو عالم واحد.
وهكذا، نرصد معه، استمرار الحياة في الفلسفة العربية _ الإسلامية، فهي انتجت حتى في اللحظات الأكثر حراجة في تاريخها،وهنا نتوقف لنشير إلى أن الدكتور زيعور، تحدث في كتبه الأخرى عن أجنحة لهذه الفلسفة‘ فهناك الهندي والعثماني والفارسي، كما ان هذه الفلسفة غادرت نحو الغرب، فانتعشت مع التومائية، وغيرها من الفلسفات التي استلهمتها واسترشدت بخطواتها.
وبذلك، نلاحظ أنّ الدكتور زيعور، ينبه إلى أمر هام في التراث الفلسفي، فالحديث المتداول عن غياب التفكير الفلسفي، لا يعود إلى رؤية واقعية، إنما نتج عن ضعف في العمل البحثي لدى الدارسين، ولعله في هذه النقطة، يدعو الباحثين لتصويب هذا الواقع، وإعادة النظر فيه.
وهكذا، ندرك أيضا اعتباره حقل التاريخ للفلسفة حقلا غنيا، فالدارسون وإن أظهروا جزءاً من هذا التراث، ولكنهم أبقوا الكثير بحالة من الستر، الذي يخبىء خلفه حقبات واسعة من تاريخنا الفلسفي وحركيته.
التجربة الفلسفية العربية بين تنويرين
على خلاف السائد والراهن في الساحة الفلسفية، يتحدث زيعور عن نهضة فلسفية، إنطلقت مع التجربة التنويرية العربية الأولى، التي وجدت في طروحات مدرسة الأفغاني أبرز تجلباتها، حيث طرح نظرانيّو “عصر النهضة” اسئلة كثيرة ، من نحو: السلطة، الشورانية، التأويل، الإيمانيات، نقد المجتمع والقيم والفكر، العقل، المنهج… وهذه التجربة لم تحاول أن تستنسخ التجربة الغربية، ولكنها حاورتها، مع الحفاظ على ذاتية الدفع، فكانت منبجسة من التراب والأرض والوطن، من المشكلات والانشغالات والطموحات الخاصة.
فسؤال النهضة أو التنويرانية الأولى، لم ينشأ من الصدمة الحضارية، لكنه خرج من رحم تجربة الذات العربية، حين حاولت أن تعيد ترتيب عالم المفاهيم الخاص بها، وهذا الأمر، نلحظه في أدبياتها، التي استرشدت تاريخها وتجربتها.
وهذه الطروحات، تطورت، وانتجت التنويرانية الثانية، التي امتازت بأنها إعادة تعضية وتدقيق للمفاهيم والتجارب مع الفلسفة، وإعادة أشكلة لأسئلة الوجود والعقل والقيمة، للتاريخ والسؤال نفسه وسؤال الفلسفة، وقامت هذه التنويرانية الثانية على إرادة نقدانية حضارية كشفت وتكشف ما لم ينتقده النهضويون وما أغفلوه، ما هدروه وما غدروه، ما لم يهتموا به أو استصغروه.
ويصل الدكتور زيعور إلى نتيجة، أن الفلسفة في مدرستها العربية الراهنة، عقل شمولاني وكوني، واقعاني ومسكوني…؛ لذلك، فقد لا تكون الفلسفة”ذاتها”، وفلسفةً للعقل وبالعقل، إلا إن كانت علمانية؛ وحتى في مجال فلسفة التدين لأنه الممارس والمعيوش والواقعي، وتكون أيضا متغذية بالعلم وتقوده باسم الكينوني والأنسنة ومعنى الإنسان، لكنها لا تكون علما ولا هي علموية؛ ولا هي وضعانية، أو مجرد فلسفة تحليل أو تحليل منطقي لغوي…
والفلسفة، ولمرة أخرى، قد نجحت في تعميق وصقل ضرامية القول في حقوق المواطنية والنحناوية والإنسان المستضعف؛ والقول أيضا في تعددية الميادين والمناهج، وفي اختلاف المعنى ومستويات القراءة والفهم والتأويل.
وهذه الفلسفة، تتحرك بوقود الحرية، وبإرادة النظر الحر وغير الاستنفاعي في مشسكلات الوجود والمعرفة والقيمة، ومشكلات القول والفعل والانفعال، المعنى والحقيقة والزمان، الألوهية والميتافيزيقا والمصير، العلل الأولى والماهيات والعلم… وبعد هذا التقديم ينتقل إلى معالجة ميادين الفلسفة، ويوزعها على أربعة أبواب، شغل كل باب من الأبواب، بتحليل لميدان معيّن.
وهي تجرية، لم تستلهم السابوع الألماني، وتفسيراته الفرنسية، وعند هذه النقطة، نلاحظ قراءة أخرى لتاريخ الفلسفة، حين يذهب د.علي زيعور إلى رفض المتعارف عليه في تاريخ الفلسفة من نسبة الحداثة الفلسفية إلى ديكارت، فهو يرى أن الحداثة لم تولد إلا مع كانط، الذي أوجد تغييراً جذرياً في الفكر الفلسفي، وخرج من نطاق الفلسفة العربية_ الإسلامية، معلنا ولادة قول في الحضارة الغربية.
وعند هذه النقطة، نرى د. زيعور داعياً للاستفادة من هذه التجربة، ولكن مع الحفاظ على روحية الانفتاح على الإنساني من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين كالهنود… حتى لا نصل إلى حصرية فكرية، تقضي على كل مقومات للمختلف والتعددية في الحضارة الإنسانية أو في الدار العالمية للإنسان والفلسفة.
وهنا، نلاحظ تداخلا بين النفسي والفلسفي، حيث يسعى إلى فكر متوازن، لا يلغي خصوصية الذات ولا يعيدها إلى قوقعة جامدة مولدة لكافة أنواع التسلُف، ولا يذيب الذات في الآخر، فتتحول إلى آخر، لا يمتلك مقوماته، يحاول أن يشيد ذاتا فلسفية إن لم تكن إنسانية، تنفتح على كل ما هو إنساني.
وهكذا، نرى زيعور؛ يقدم مشروعاً فلسفياًً تأصيلياً، يشابه مشروع د.طه عبد الرحمن في نقاط متعددة، فكلاهما يعتبر الذات أصلاً بنائياً، لا يمكن إنتاح معرفة أو فلسفة… بمعزل عنها، فالآخر_ مهما كان هذا الآخر_ يملك تجربته الخاصة؛ النابعة من مكوناته وتراكماته، وهي تلائمه، تعبر عن هواجسه الخاصة.
وهذا الأمر، لم يدفع الفيلسوفان إلى القول بإنشاء “غيتو” حضاري، تتقوقع فيها الذات وتنغلق على نفسها، ولكنهما، ذهبا باتجاه الإنفتاح على الإنساني، بهدف إنشاء فلسفة إسلامية ذات طبيعة عالمية.
وهذان المشروعان الجادان في طرق التعامل مع القول الفلسفي، يختلفان في الأدوات، ففي حين يذهب الدكتور زيعور إلى الذات العربية ليعاينها من خلال التراث الفلسفي، فيكشف عن انجراحاتها ومكامن العلة فيها، فيصف ويوصف. يذهب الدكتور عبد الرحمن إلى إنشاء فلسفة تقوم على البعد النصوصي، فتصبح الفلسفة بنت النص، تعبر عن ما يعبر عنه، تنطق بقوله.
ميادين الفلسفة العربية
وبعد هذا النقاش الفلسفي، يبدأ رحلة في ميادين الفلسفة، مظهرا الاستفادات، وطرق التفاعل، فتحدث عن العلاقة بين علم الإنسان والفلسفة، واعتبر ان علم الإناسة قدم تنويرا لمعرفة الإنسان بجسده ومجتمعه، تاريخه واسئلته وثقافته؛ وطور النظر المحض المنزه في الفكر، وفي النسبي، وفي تداخلية وتكاملية التطبيقي والنظري، الجسدي والاجتماعي، والفلسفة العربية في المرحلة الراهنة تستفيد منه، وتتكامل معه في نقد التجارب العربية السابقة والخبرات العالمية في إنتاج العلوم ودراسة الحضارات… كما تنتقد التجربة الراهنة مقولات التنوير الأول التي انغرست قليلا، أو على نحو ناقص؛ وتستوعب تلك التجربة النقائص والنقصان من أجل إعادة الضبظ أو طلبا للتعزيز والتطوير.
وانتقل بعد ذلك إلى” ميدان الإنسانوية والشخصانية والجوانية”، فعرف الدكتور ماهية الشخصانية، واعتبرها آرائية؛ لكأنها توجهات فلسفية، لكنها لا تتهرب من النسقنة، ومن إقامة المذهب بأدواته، وأفهوماته، وطرائقه في التعمير، أو في الاكتشاف. ثم إنها “فلسفات متعددة؛ وليست هي فلسفة واحدة إلا بمقدار… انها تنبني على ركن اسمه الشخص؛ فتعمل على تعريفه، وتعريف عالمه. وهذه الفلسفة تمتاز بسمتها الدفاعية المتمركزة حول الذات المطالب بحقوقه وحقوق تواصليته ومجتمعه من جهة ومتمركزة على المطلق، والمطلق هو المقصود الأسنى، وهي على الرغم من أنها تحلل بالعقل ةتنظر فيه ومن أجله، فلسفات إيمانية. إنها تتحرك بالاعتقادي؛ والإيمانات هي النسغ، والوقود، والمحرك، والموجه.إنها فلسفة فِيّاوية، غنائية، وجدانية، عواطفية،ذاتمانية… وهي، وعلى الرغم من كل شيء، مذهب إرادوي، أي فكر يغلب الإرادة؛ وبذلك فهو مذهب ينسى أنّ الإنسان كائن ضعيف، محدود القدرات والطاقات، هش، وخطّاء، عطوب وكثير الانجراحات، محكوم باللاوعي والمتخيل اللذين يبدوان، في ذلك المذهب، شبه محجوبين تأثيراً وحضوراً ثم منعةً ومردودية.
ليصل للحديث عن” التمايز والتعاون بين الروحاني والنفساني والعقلاني في فلسفة التصوف المحدث” فيعتبر أن الفكر الصوفي فاعل في الذات العربية، ويعود هذا الأمر إلى تميز هذا الفكر بالأصالة والمعيوشية والمحلية أو الخصوصية. ويذكر: المعرفة بالفيض او الانبثاق، الإشراق، انقذاف النور في القلب أو في الصدر… المعرفة اللدنية، المعرفة الذوقية … ومن أهم ما نتوقف عنده، في المعرفيات الصوفية، المعرفة بالمعاناة من الداخل، أي بإحياء الفضيلة أو الفكرة أو الحالة في ذاتنا ونفسنا وصميمنا… والصوفي هو الذات والموضوع، العارف والعالم أو الوجود.فوعيه هو دائما موجه إلى الخارج، أو هو وعي مجبول دائما بغاية وموضوع أو شيء أو مقصود… في اختصار، إن الذاتاني، عند الصوفي، منطلق، ومنهج، وفلسفة. وما الذاتنية الصوفية هذه بمعزولة عن الخارج، عن المجتمع، عن الأشياء؛ فالخارج والداخل يصبحان عنده موحَّدين بل تنمحي ثنائيتهما بحيث تكون المعرفة داخليا وخارجية معا. كما ان العقل الصوفي أبدع في الجانب الاخلاقي والقيمي وهذا ناتج من ان الافهومات لا تقال انها تعاش وتعانى أو ترى وتسلك، تنصهر في الذات وتذوب في التصرفات والعلائقية.
وتحط الفكر عند: “فلسفة التأويل” ” وهي علم أصيل في الفكر العربي الإسلامي الأرومي، بناه الاعتزاليون، وقدم المتصوفة فيه تأويلا مغرقا… النطرية العربية الراهنة ترى فيه نظرية فلسفية؛ فهو ميدان علماني عام، كوني، كلي البعد، فالعقل التأويلي، في هذا المعنى، صار شمولانيا، نقدانيا واقعانيا… اغتنى الفكر التأويلي، من قراءة أعلام التأويلانية شلاير ماخر، دلثي، هيدغر بالإضافة إلى نيتشة ومفسريه الفرنسيين وفهم أو فسر الفكر التأويلي في البروتستنتية وفي التومائية المحدثة(ريكور) وبواسطة محاورة الفكر العربي الراهن لذلك التأويل استطعنا أن نفهم قدرتنا الذاتية، وهويتنا، وأغوار فكرنا التأويلي نفسه، وفلسفتنا في الدين والتفسير… ومن هنا يصل إلى القول: إن التأويلانية فلسفة في الإنسان والألوهة… في القراءة… في التفسير.
وفي نهاية هذا الميدان، يقف”د.زيعور” مع علم التاريخ وفلسفته المحدثة ومهنته، ويعتبر أن هناك مدرسة عربية في علوم التاريخ والحضارة والاجتماع، لذلك، سرعان ما نجح الفكر العربي المعاصر في أواليات التعلم والتجاوز، أو الامتصاص، وإعادة التثمير والضبط. وهنا انتقل إلى ميدان آخر عمل على تحليله وإظهار مكوناته، فعالج مسألة ميدان الفلسفة الاجتماعية والسياسية والمدنية، ويبدأ الدكتور من خلال هذه المعالجة بدراسة العلاقة بين الدين والأخلاق، وكيف يمكن لهذين العلمين أن يكونا متوافقين، يكمل أحدهما الآخر ليذهب بعد ذلك باتجاه الفلسفة العملية فيعالج مسألة الشورى وفلسفة التديّن والحب والتربية، وفي كل هذا، سعى إلى الفصل بينهما، على اعتبار ان فصلنا الأخلاقي عن الديني، وعن المديني والسياسي، نصل المنقطع بينهما. وقد مرّ أن القطيعة بينهما لا تحول دون تعميق أحدهما للآخر، أو دون تغاذيهما وتناضحهما ومن ثم تكاملهما ضمن الرؤية الفلسفية، أي ضمن النظرية الكونية العالمينية المقارنة والفكر المستقبلاني للإنسان والمجتمع والتواصلية.
ويلاحظ القاريء، أن الدكتور زيعور، لا يكتفي بالنظري، فهو ينتقل دائما إلى العياني واللاسويّ والمعيوش، فيأخذ عينات من تجربته ومنهجه النفساني، فيحولها إلى مادة، تستقرىء الواقع، وتحاول أن ترصد ما يتحرك فيه، لتقوم بقراءة نقدية له، وهذه النقدانية لا تكون حيادية أو تسووية، مهادنة أو مفاوضة مساومة… وذاك في كل المجالات، وفي كل شيء داخل كل شيء. وهي تخسر ذاتها أو قدرتها واسمها إن هي لم تتعقّب العصابي واللاسوي والقسري في نقدها للذات والآخر وللدار العالمية.
وهي في هذا الهتك، ذات فعالية تعميرية وإرادة تثميرية … في كلمة أخرى، إن النقدانية، وهي تتكافأ مع “التغيرانية” رهان؛ وهي مشروع مطروح للتحقق وعلى المستقبل.
ولأنه، يرى الفلسفة نافذة مفتوحة على العلمانية الفلسفية، انتقل زيعور للحديث عن ميدان الهنديات في الفلسفة العربية، ويرى في هذا الميدان مدخلا من أجل التغذي والتنور في مجالات فهمنا للتصوف الإسلامي، ونظريات الحضارة الإسلامية التأسيسية في السعادة القصوى، أو في المعرفة والحقيقة، أو في المعرفة والحقيقة وتصور الألوهة وعلاقتها مع الإنسان والتاريخ والمصير.
ويعتبر أنّ الهنديات تعمق التبادل الكوني، وتساهم في تبادل التعزيز الذاتي والاستقلالية الاسهامية حيال دار الغرب الفلسفية، فكذلك قد تكون أيضا وينبغي لها أن تكون الحال في ميادين علم النفس، والعلوم الإنسانية، والعلائقية الهندية العربية بل والهندية الإسلامية داخل الدار العالمية للسياسة والاقتصاد والعدالة، أو للوجود والفكر واللقمة الشريفة.
وفي النهاية، يقف الدكتور علي زيعور مع “النحن والأنتم” ويعالج التمايز والتحاور التفاعلي ضمن الذمة المسكونية، ومن خلال هذا الفصل يعالج العلاقة بين المسلمين والغرب، وينتقد التوجه الغربي، الذي يقوم على أساطير العمل والآلة والدولار، هذه المفاهيم التي تحتجز الانسان ضمن بنية مفاهيمية جامدة مغلقة.