المقصودُ الأول، في هذا الكتاب، يتميَّز عن الرمزيِّ والمتخيَّل، عن الحدسيِّ والإيمانويّ. إنَّه القول الفلسفي ؛ إنَّه العقل، أو الذّهنُ، أو الفكر. وهنا الفلسفة، والمقالُ المفهوميّ أو الأفهوميّ؛ وهو النظرانية. هو المحضانية، والعِلم الأتَمّ أو المعرفةُ بالأعَمِّيِّ والأشمليّ طِباقياً وقطاعياً.
أدناه، يأتي العقل أداةَ معرفةٍ، ومنهجاً، ورؤية. ولذلك فهو يختلف عن العادة أو الغريزة، العاطفةِ أو الانفعال، الانتباهِ أو المعتَقِدة، التكلّمِ أو الوعيِ أو الذاكرة، المزاجِ كما الطبع. ليس يُعاد هذا العقل إلى مَلَكةٍ أو قوَّةٍ من تلك القوى النفسية؛ لكنَّه يستلزمها جميعها، يحتاجها، ويتغاذى معها بتكاملٍ وتضافر. وبذلك فالعقل، والذي هو الفكر والحداثة والنقد، موضوعٌ نفساني؛ بل هو غرضٌ أساسيّ لعلم النفس. وفوق ذلك يكون علمُ النفس أيضاً عِلمَ الأحداث النفسية؛ عِلمَ الحالات النفسيةِ من حيث هي مَعْنِيَّةٌ بالوعي معاً وبالسلوك قائمَيْن في حقلٍ اجتماعيّ تاريخيّ وطبيعي (فيزيائي وبيولوجي/حِياويّ).
2
والمقصودُ الثاني هو، في هذا الكتاب، معاينةٌ تُشخِّص؛ وتُحاكِم؛ وتَطْرح خطّةً أو أفكاراً حول العلاج: تُشخِّص بمعنى أنَّها تَصف الظواهر أو الأعراضَ كما المستوياتِ والغوريات، اللاسويَّ والمعيوش، الواعي واللاواعي…؛ والمعاينةُ تحاكِم أي هي تَعْرف وتَنْتقد، تكتشِف الأسبابَ وتفسِّر كما قد تَفْهم أو تؤوِّل…؛ أمَّا خطوةُ اقتراحِ علاجٍ ، أي إعادةُ ضبطٍ أو إعادةُ تأهيل، فهي خطوةُ العودةِ بالفكر إلى الواقع ومقترحاتِ التعاون بين التلاؤم والتكيُّف: بين الحركة من الذات إلى الوسط الطبيعي أو المجتمعي، والحركةِ من الوسَط أو الخارجِ إلى الداخل والفِيّاوِيّ.
أدناه، تأتي كلُّ توصيفةٍ تعبيراً عن حالة. والحالة هنا هي حالةٌ من حالات النفس أو الوعي مصاغةٌ مسكوبةٌ في مقطَّعِ «مستقل» مكرَّس، مُفْرَدٍ ومحدودِ السَّعَةِ أو الحجمِ والمقاييس. وهكذا فالمقطَّعات حاملاتٌ إمَّا لمقولةٍ أو لحالةٍ نفسية؛ لحالةٍ صحيةٍ نفسيةٍ هي إمَّا مضطربة أو معافاة، تحليلْنَفْسيةٌ أو طبَّنَفْسية، واعيةٌ أو غير واعية… كما قد تكون الظاهرةُ الموصوفة المفحوصةُ عائدةً إلى الوسط النفسي ـ’العضوي (الانتباه، العادة، الكلام، التفكير…)؛ أو إلى الوسط المجتمعيِّ (الشروط، الحقل، البُعد التاريخي والحضاري)؛ أو إلى الوسط الفيزيائي الطبيعي، والجسدي (را: وحدة أبعاد الإنسان).
3
وللأوضح والأخصَر، كيف جاءت، أدناه، الحالاتُ النفسية ؟ لقد وُصِفَت من حيث إنَّها سلوكاتٌ منغرسةٌ في واقعٍ وحقل؛ ومن حيث إنَّها مواقفُ أو وظيفةٌ أو دور؛ ومن حيث إنَّها علائقياتٌ إنْ بين قوى النفس أو بين مقامات جهازها، وإنْ بين الأنا والأنتَ، أو بين الذات والآخر ضمن النحنُ، وفي فضاءٍ نفسي اجتماعي وأيضاً بيولوجيٍّ وطبيعي. وهكذا فالحالات النفسية تَتَمظهر على نحوٍ إقدامي وإحجامي، تحريضي وطَرْحِيّ، انهزاميّ وانتصاريّ، سويّ وغير سويّ؛ سقيمة أو معافاة… (را: الصِّنافة والنِّماطة والمَواقعية).
وسويٌّ هو أنَّ تلك الحالات تُصيب الشخصيةَ كما تُصيبُ المجتمعَ والعلائقيةَ والنحناوية؛ وهنا أمراضٌ أو عوارض تَقع على الفكر؛ على العقل والإرادة؛ وعلى اللغة. فالعُصاب، على سبيل الشاهد، يَحْصُل للفرد بقدر ما يَحصُل للعقل، للفكر، للمجتمع، للحضارة عينها؛ بل وحتى للعلائقية مع الأُمم الأُخرى داخل الدار العالمية، أو ضمن الاستراتجيا القومية حداثيةِ النزعة وإنسانويةِ المَدى والبُعد.
وهكذا، إذَن، فإنَّ الحالات والأمراضَ النفسية والسلوكات والتفكيرات تعود كلُّها إلى علم هو علم الفكر معاً وعلم السلوك، إلى النفس والعقل، إلى العقل الذي هو النفس أيضاً، وإلى النفس التي أيضاً العقلُ هي. وسوف نعود أدناه إلى هذه الموضوعة المشتركة حيث علم النفس ثم الفلسفة يتعاضدان في تفسير الإنسان وسؤاله، كينونته ومعناه وتغيُّره.
4
يحتاج لهذا الكتاب الطبيبُ النفسي، والمعالِج النفسي، وميدانُ علم النفس العيادي؛ ذاك لأنَّه يشخّص وقد نلمح إلى إمكان وشروطِ المعالجةِ والإشفاء لحالاتٍ مَرَضية أو لاختلالاتٍ واضطراباتِ على صعيد الشخصية كما على صعيد المجتمع والجماعة، وحتى على صعيد الفكر نفِسه واللغةِ كما الأيديولوجيا والنَّحْناوية. فعلى سبيل الشاهد، توصَف أو تُحلَّل وتُنتَقَد مع كلِّ السعيِ إلى الاستيعاء [= الوَعْيَنة، أخذُ الوعي، الوضعُ أمام الوعي)، ثم إلى الاستيعاب ، الحالاتُ التي تتعلَّق بالماء؛ فنجد: حالة مَن يَذهب إلى السباحة فيكتفي بارتداء الثوب الخاص وغسلِ اليدَيْن والوجه؛ حالة المحتاج إلى التناول بإفراطٍ (مَرَضيّ) وبدون أن يشعر بالشَّبَع للماء (Potomania) ، أو إلى الكحول (dipsomania) ؛ حالة الذي يحمل بيده زجاجة الماء فيشرب حينما يتوتّر أو ينفعل؛ أو ليدافع عن نفسه بأوالياتٍ ناقصة (يغطِّي قلقه، يهرب، يعوِّض، يبتلع هَمّاً أو صدمة…)؛ وثمة أيضاً حالة الغسل المَرَضي القسري للْيدَيْن، للأواني؛ الخ.
ويحتاج إليه نَظَر المعالِج النفسي نظراً إيجابياً أو استشارةً علاجية تكون فيها تلك العيّنة (الماء) موصوفةً كوسيلةٍ قابلةٍ لأن تَبثّ الارتياحَ والهدوءَ النفسي عند عُصابيّ أو متمأزقٍ أو مكتئب، وكحالةٍ اضطرابيةٍ تَسْتلزم الاسترخاء (را: العلاج النفسي قديماً بحمَّامات الماء). وفي اختصار، ولعدم جدوى التفصيل والاستنفاد، يحتاج ـ أيضاً ولربّما كثيراً ـ المحلِّل النفسي، وميدانُ علم الرمز وعلم التأويل وعلم الحلُم، إلى قراءة الحالات النفسية المرتبطة، كما سنرى أدناه، بالماء والعطش والنبع…
بعد تفحّص الحالات التي يستولدها الماء، وهي كما رأينا منها الرمزي والعُصابي أو القسري، واللاواعي والمعيوش كما الجماعي، نأخذ عاملاً آخر مُمْرِضاً: هنا، أدناه، سوف تَجْبهنا هنا عوامل كثيرة مولِّدة للاضطراب في الشخصية والمجتمع والثقافة. وهكذا فسوف نَعثَر على حالاتٍ نفسية مرتبطة بالطعام أو النوم، وبالحبّ أو التعصّب؛ وكل ذلك ليس على شكل بحثٍ مُفْردٍ متخصِّص؛ إنَّنا نعثر، مبعثَراً، على مَرَض الانتباه أو اللغة، على مرض المعتقِدة أو المخيَّلة أو على أمراض العقل والشخصية (والطبع والمزاج)، على الجنوح ومشكلات النماء أي المراهَقة والشباب والشيخوخة… جميع تلك المُمْرضات والاضطرابات كما الحالات المعافاة والسويَّة، تَرِد، إذَن، ليس على غرار ما تجري عليه البحوث المنظَّمة. إنَّنا نجابه ـ’أحياناً أو مرَّات’ـ حالةً واحدةً في «أماكن» عديدة؛ ومن زوايا مختلفة، ومع تركيزٍ على نقطة هنا، ثم على نقيضها أو خلافها أو شكلها الآخر ـ’هناك. لا بدَّ من عيّنة ممثِّلة: فلنأخُذْ العلمانية، أو الاغتياب الحضاري، أو الحَسَد لأُمة، أو الجسدانية…؛ لكأنّها كلّها حالات هي، أيضاً وفي الوقت عينه، قولاتٌ فلسفية أوتيارات.
5
من أجل أن نقرأ، قراءةً نفسانية عيادية، الفكر العربيَّ التقدميّ، الحداثويَّ أو التنويرانيّ ، اعتبرناه حالةً. أَحْلناه، ريثماوياً ولتسهيل التحليل، إلى أريكة التحليل النفسي، إلى العيادة الطَّبَّنَفْسية… والحالُ هذا، فقد اكتشفنا بتعقّب أعماق ذلك الفكر وبمعاينة تلافيف خطابه أنَّه خطابٌ منجرح ومُعافى، متوتّر وسويّ:
أ/ فمن انجراحات ذلك الفكر إصابته باضطرابٍ هو التأثيم الذاتي، وإصابته بالبارانويا، وبمخاوف وقلقٍ وتوتّرات، الخ.. وحتى تشخيصُ هؤلاء المعاينين، تحليلاً ثم طرحاً لعلاج، ناقصٌ وقاصر: إنَّهم يفسرون «التخلّف العربي» بعاملٍ مسبق وجاهزٍ أو أيديولوجيّ هو الدِّين السياسي؛ ويطرحون علاجاً وحيداً هو فصلُ الدِّين عن السياسية، وعن المجتمع والحياةِ والمستقبل. إنَّ خطاب أولئك المعاينين، المفسِّرين ثم العلاجيين، يُقدَّم كخطابٍ استراتيجي ويُعرَض كفلسفةٍ أو نظرانية متماسكةٍ وتكييفانية، رُشْدانيةٍ وتغييرانيةٍ متواظِبةٍ… لكنَّه، بحسب ما التقطناه في جسده وأدواته من اختلالاتٍ وتوعكاتٍ، خطاب نازف: فقد قيلَ إنَّ أحد تياراته تيار مَخْصيّ، عاجز، تراجعي…؛ وقيل في تيارٍ آخر إنَّه قائم متشائم؛ وآخر هو نُفاجي، عدائي معاً ونرجسي، مقفل ومتصلِّب يابس…؛ وثمة ما هو تيار تكديسي تجميعي، توفيقاني وتلفيقاني لما هو ليل أو أسود أو شتاء مع ما هو نهار أو أبيض أو صيف.
ب/ وذلك الخطاب العربي الراهن، وإذْ رأينا في الفقرة السابقة التياثاته وأعصبته وخُوافاته، هو أيضاً قابل لأن يوصف بالسّمات الباثولوجية الكثيرة من حيث «التوصيفات» الإشفائية التي قام بها في «دراساته» للأنا والشروط، وللفكر كما للمجتمع والنحناوية. بعبارةٍ أُخرى، إنَّه لمن وَصْفاته العلاجية ما أتى أدويةً أو جُرعات سمّوها أو تُسمَّى: العلمانية أو الديمقراطية، العَرْيَنة أو الغَرْبنة؛ وقدَّموا دواءً آخر اسمه: قاطع التراث (قا: دواء قاطع الشهية)، السَّوّاغ العلموي، قاتل اللاهوتي، اللاغي العادم للتكاليف الدينية… لا ضَيْر؛ فالمَرَضي في تلك «الأدوية» يبقى ادّعاءاتُها النَّفاجية، وانزلاقاتُها إلى المنبري والأحادي؛ وهنا فقر في الخطاب (ألوجيا/ alogia )، واستقراضٌ أو سرقةٌ لحلّ جاهزٍ نجح في حضارةٍ ما بغير أن يكون دقيقاً القولُ بأنَّه حلّ سحري وصالح في كلّ زمانٍ أو مكان. لا نفصِّل؛ ولا نتعمَّق أو نكِثر.
6
كما درَسْنا، في عيّنةٍ ثانِية، الأصولانية ، وعياً وسلوكاً وعلائقيةً، بمثابة حالةٍ نفسيةٍ اجتماعية؛ أي كحالةٍ عياديةٍ أو تحليلَنَفْسية (قا: العرفانيات أي القُطب المناقِض). ثم إنَّ الأصولاني، السلفي المتشدّدَ العَنَتيّ، بعينِ وأدواتِ علم النفس، قد عُدَّ وأُخِذ بمثابة ذاكرة . فما معنى ذلك وكيف تكون التعاملية؟ إنَّ الموقف الطَّبيبي لا يقول بإلغاء الأصولانية أو قتلها؛ فهي جزء مِنَّا، ورزيحةٌ وميدانٌ، ونمطٌ أو طبقة من البنية العامة. كلّ قتلٍ، للسلفي المتعصّب أو لما شاكله، أو لقاتل التراث وللعلماني، والمناقضِ للصراطية، يكون بَتْراً ذاتياً بطواعيةٍ وتَعمّد (را: حالات ذُهانية أو ما قد يحصل في حالاتٍ متخلفٍ عقلي). لذلك عالجنا «المهووس التراثي» أو قرأناه على غرار قراءة الذاكرة؛ وبذلك عرفنا أنَّ التراث وإنْ هو محايثٌ فهو يعلو فوقنا، ويبقى بعدنا، ويسبقنا؛ وعرَفْنا أيضاً، بالحدس، أنَّه بنية، ونسَق، ونظام فكري بل أنظمةٌ معرفية وأدواتُ استدعاءٍ للماضي واستكشافٍ للمستقبل. ولا ريب، إنَّه سويٌّ، وسديد، أنْ نَضَع أمام الوعي أنَّ التراث يضعنا في الماضي، ويعيدنا إلى حوادث قديمة: نستدعيه ويستدعينا، يجذبنا إليه أو يستجلبنا، نَذْهب إليه أو نتملّقه ونَستدِرّه.
التراث، من حيث هو «حادث نفسي»، هو ذاكرة وعادة، وميولٌ وعواطف وانفعالات، واعتقاداتٌ ومزاجٌ وسلوكات؛ والتراث فكر، وإرادة، ومعرفة عقلية، وذكاء (را: التراث العقلي، التراث الوجداني، التراث الحواسّيّ، الابتدائي، ثم الثانيُّ الدرجة). ومن حيث هو ذاكرة، فهو أيضاً يتوقَّع ويَسْتبق: فإذْ هو استدعائي للماضي، هو مستشرِفٌ للمستقبل؛ وعلى هذا فهو يدمج الأزمنةَ في وحدة، ويتوسَّط بين الماضي والآتي. ومعنى ذلك أنَّ للتراث وظيفةً ذاكريةً ودورَ تأمينِ الاستمرار، والانسجامِ الجماعي والتماسكِ المجتمعي وبين الشعوب؛ وأنَّ عليه تثبيتُ معرفةٍ، وترسيخُ سلوكاتٍ وعواطف أو اعتقاداتٍ وصوَرٍ هي أفعال، وإعدادُ الشروطِ والإمكانِ للتعرف على الأحداث والماضيات، ولموضَعتها وتثميرها… وكما بدا، فإنَّ الإنسانَ تراثُ الإنسان؛ فالتراث هو كل الإنسان، ومسجَّل منقوشٌ فينا وفي لاوعينا، في ذاتنا ونحناويتنا.
بيد أنَّ هذا التشخيص لواقع الإنسان أو لأحداثه النفسية (ذاكرة، ميول، وجدانيات، مخيَّلة، لغة…)، ولِفكرِهِ أو عقله، ليس سوى منصَّةٍ أو مقدَّمةٍ ومُنتَهَض. ولا غَرو، فالبقاء عند التشخيص الأوَّلي معناه القبولُ بكلّ ما تقوله وتراه وتَشْعر به الأصولانية، وليس فقط السَّلفانيةُ الشديدة كما الخفيفة والمعتدلة. والقبول بالأصولانية معناه الإصابة بأمراضٍ في اللغة والفكر، وبخاصةٍ في الذاكرة. نَحْذَر، هنا وبعد ذلك التشخيص للباتولوجي والاختلالي، من: الالتصاقية المَرضية (المفرِطة، المتيبِّسة، المصَمَّغة…)؛ من فقر الخطاب أوالياتٍ ومضموناً (را: ألوجيا/ alogia )؛ من الاعتمادية القهرية الطفلانية (Anaclitic) ؛ من الذاكرة الجانبية ، أو التذكّر غير الدقيق واللامتموضِعِ زماناً ومكاناً، أو الاستدعاء الذاكري التراثي المتوهَّمِ أنَّنا سَبَق أنْ عشناه ورأيناه، سمعناه وشعرنا به وخبِرناه، عرفناه وتذوّقناه (را: بارامَنيزيا أو التذكّر المُجانِب ؛ أيضاً: وهمُ ما سبَق رؤيته أو معاناته (illusion of déjà vu) . وكذلك، نَحذر من الأمراض الأُخرى التي توقِع بالتراث ـ’ويوقِعنا بها التراث’ـ معتبراً كذاكرةٍ أي كقوَّةٍ نفسية؛ ولا سيَّما من مرض التصلّب والتعنّتِ. وعلى هذا، هنا، والآن، يَتَشخَّص «مرَضُ التصلّب النفسي للفكر» (Psychorigidity) ؛ أي لمبادىء وتفسيراتٍ وعقلانيةٍ تغدو جميعُها مُتَيَبِّسةً مُصَلَّدة، أحاديةً واستبدادية، لا تُمَسّ ولا تحاكَم أو تُنتقَد؛ أي تكون تماماً كما الحال هو في البارانويا، في الوطنية البارانويائية، في السياسي أو الرئيس البارانويائي.
ب/ إلى أين يوصِل هذا القول عن الطبيعة والوظيفة للذاكرة ـ’التراث؟ ماذا يكون الموقف السويّ، أو القول الفلسفي، حيال حالاتٍ نفسية ونظريات مرتبطة بالتراث أو الأصولانية. إنَّنا، بمنطق الطبّ النفسي، نصل إلى النسيان وليس إلى التشبّص المرَضي المتوقِّف عن النموّ؛ وليس إلى النقيض، إلى إذِابة الذات (را: Autolysis ) وقتلِ الأب، قتلِ الذاكرة والمرجعية.
يقوم النسيان بدورٍ تكييفيّ؛ ويؤدِّي وظيفةً هي بلا شكّ إيجابية. فالنسيان مدرَكاً مع التراث قد يكون تقدّمياً ؛ أي أنَّنا قد ننسى من أجل تعميمِ وتوسيعِ مكتسباتٍ حضاريةٍ جديدةٍ، وضروريٌّ التخفّفُ من أثقالها أو إعادةُ تعلّمها وتثميرها. إنَّ النسيان التراجعي التقهقريّ للتراث مَرضيّ، أي هو إفقاري وغير سويّ بسبب أنَّنا ننسى التعلّمات الجديدة والأقرب حُدوثاً؛ ولأنَّنا لا ننسى التجارب أو الأفعال التي جرت في الأزمنة الأولى (الأقدم، الحاصلة في الطفولة وما حولها): المُراد هو أنَّ نسيان التراثي فينا ظاهرة سوية؛ وهي أيضاً صِحّية أو عافية، ومعافاة. فالحضارة المعاصرة، كما الإنسانُ المعاصِر، لا تستطيع أنْ تحتفظ بكل الذكريات وتبقى في الوقت عينه رشيقةً غير متثاقلةٍ وغير متهدّلة. وإذْ الذاكرة عقل واختيار، فهي لا تستطيع أنْ لا تمحو وتَغسل، أو أن لا تُسقِط وتُغيِّب. فالتكديس للأنقاضِ يَمْنع البناء والتقدُّم، ويَمْنع التطهّر وتَخفيفَ الأوزانِ والأثقال. إنَّ الصحة النفسية للذاكرة الجماعية، وتماماً كما الفردية، تكمن في النسيان (را: الذاكرة المفرِطة حيث نعيش الماضي تماماً كما لو أنَّه حاضرٌ يحيا فينا راهناً وباستمرار).
7
أخيراً، يَمْثل الموقف الطبيبي العيادي، تفحصاً وتغييراً، في عيّنة أخيرة هي العقل الاستراتيجي. هنا نقول إنَّ كل قسوةٍ في محاكمة العقل العسكري العربي ، وبخاصةٍ في علائقيته مع اليَهومِركي واليَهوفَرنسي بل اليَهوغَرْبي، تكون قسوةً غير نافعةٍ إنْ لم تكن موجَّهةً من قَبْل ومن بَعدُ إلى العقل السياسي العربي. فدراسةُ اللاوعي الثقافي والتجاوب الطفلية (القديمة) للفعل والقول السياسي ثم للفاعل العسكري ، دراسةً استكشافيةً تحليليةً، توصِل المحلِّل المستكشِفَ إلى جذور الانجراح أو الإخفاقِ الراهن. وهكذا ربَّما يتفسّر العقل العسكريُّ المعاصر ليس فقط بمعاينة الظروف والتكتيكات المعاصرة؛ فثمة أيضاً منفعةٌ أو أنوارٌ يمكن أنْ تُستخرج من تعقّب القيعانِ المعتِمة، والرواسب الريفيةِ والشَّعْبوية الطفلية، وذكرى الصدمات اللاواعية التي جرتْ للشخصية المقاتِلة إبان سنواتها الأولى وفي تربيتها البيتية وعلائقتها الوالدَيْنية ومع الأب. من جهةٍ أخرى، تُعلِّمنا وَعْيَنة اللاواعي والقسرياتِ أنَّ الخوف من الآلة المعقَّدة المثوَّرة يكون لأنَّنا لم نصنعها ولم تَصْنعنا؛ ولم نُعانيها ونُساكنها؛ وإذْ نحن لا نذوب فيها وتذوب فينا فإنّنا نكرهها ونودّها معاً.
وإذَن، تبقى وَعْيَنةُ اللاواعي والدفين، الظلّيِّ والهاجعِ والمتضمّن، عمليةً محرِّرةً مطهِّرة وعميمةَ النفع والسداد؛ وذاك كلُّه إنْ فيما يخصّ العقل العسكريَّ أم التنمويّ، الحضاريَّ والتكنولوجيَّ كما المستقبلاني المنتِج للعلوم الثائرة، وللفعلِ السياسي الحرِّ والديمقراطي والتشاركي، وللقول الفلسفي كما للقيم الكونية البُعد.
8
المقطَّعاتُ، ناظرةً إنْ في القول الفلسفي أمْ في حالاتٍ أو سلوكاتٍ منجرحة، مستخرَجةٌ من دفاتر «ذِكْرياتية»، مبتغاها لم يكن دائماً تقديم قولٍ مستنفِدٍ. فأحياناً كثيرةً يكون المبتغى مجرَّدَ طرحِ سؤال، أو استثارةِ النقد، أو التحريضِ على البحث والتشكيك والتحليل. من هنا يَتَدفَّق تساؤل: هل التردُّد مقصود أو قهري؛ هل التكرار توضيحي أو ردٌّ على تشكيكٍ، وعلى عدم ثقةٍ بالحلّ المقترَح أو بالجواب؟ إنْ لم نَنْجح كثيراً فإنَّنا لم نَفْشل.