الدكتورة سالم تحاور الدكتور زيعور: تفسير أساطيرنا عبر يونغ وفرويد معا

tree-of-knowledge       الدكتورة سالم تحاور الدكتور زيعور تفسير أساطيرنا عبر يونغ وفرويد معا 

الدكتورة نبيلة ابراهيم سالم :استاذة في كلية الآداب في جامعة القاهرة 

جريدة النهار، بيروت،20-1- 1975

كتب الدكتور علي زيعور ثلاث مقالات في جريدة النهار الصفحة الثقافية تحت عنوان ” تفسير الأساطير الشعبية والصوفية”. اطلعتُ على المقالين الثاني والثالث تاريخ 4/5، 5/1، وللأسف فاتني قراءة المقال الأول. أسعدني كثيرا أن ينحو المهتمون بالدراسات الإنسانية، وبخاصة تلك التي تمس مباشرة، جوهر الحياة الإنسانية، مثل علم الانثربولوجيا وعلم الدراسات الشعبية وعلم النفس، أن ينحو هؤلاء إلى جعل الهدف من هذه العلوم وظيفياً، في معنى ألا يعيش المهتمون بها في برجهم العاجي يقضون العمر في دراسة النظريات بعيداً عن الناس الذين استقى منهم الباحثون أصلاً المادة التي كونت من بعد جوهر تلك العلوم. وكلنا يعرف كيف نشأ علم الانتربولوجيا أو علم الإنسان مصاحبا للاستعمار ولِهدفِ الكشف عن أعماق الجماعات المستعمرَة حتى تسهل قيادتها. فهذه العلوم لم تنشأ إذن إلا لتجيب عن سؤال ملحّ وهو: من أنا؟ وما الأصول التي انتمي إليها والتي ترسبت في نفسي ودعتني لأن أسلك فرديا وجماعيا على نحو ما؟ ويبدو من المقدمة الموجزة التي افتتح بها الدكتور زيعور مقالاته انه يرمي إلى تحقيق أمرين، في وقت واحد. الأول، استخدام علم النفس استخداما عملياً في الكشف عن الرموز الشعبية، والثاني: تفسير رموز التصوف في ارتباطها بالتقاليد والقصص الشعبية والرموز العالمية على حد تعبيره. من هذا المدخل حاول الدكتور زيعور أن يفسر رمزين شعبيين مرتبطين بمعتقدين شعبيين يسودان مجتمعاتنا العربية، أما الرمز الأول فهو “الودع”الذي له صلة بالاعتقاد الشعبي في قدرة أشياء بعينها في الكشف عن الغيب. وأما الرمز الثاني فهو النعل الذي يتصل بمعتقد شعبي آخر، هو درء الحسد عن الشيء الذي يُعلَّق به النعل أو الخرزة الزرقاء أو الكف، إلى غير ذلك. وعندما شاء الكاتب أن يفسر رمز الودع نفسيا، وجد، وربما عن طريق كلمة “الودع”، و”ذات الودع” (بسكون الدال)، وهي آلة كان يعبدها العرب الجاهليون وفسرها القدماء أنها تجسيد لسفينة نوح.

ودفعته هذه العلاقة اللغوية لأن يستنبط علاقة معنوية بينهما تتمثل في أن ذات الودع كانت تُعبَد لدلالتها على الخصوبة التي تعني الدوام والاستمرار، وبالمِثْل بكتسب الودع القدرة على التنبوء، لأنه كما يقول:” رمز للخصوبة والتجديد والتعرف”؟ فلما حاول من بعد أن يربط الرمز في دلالته النفسية التي أشار اليها، برموز الصوفية، ذكر في الحقيقة عبارات مبهمة لا تفصح عن شيء. قال:” إن الودع ذو صفات خالقة وقدرات على الاستعلام والعطاء والتعريف، بسبب الشبه أو على الأصح التشارك الصوفي بينه وبين عضو الأنوثة شكلاً ومظهراً. وكرر مثل هذه العبارة في قوله:” والسبب في تلك القدرات الخارقة للودع هو أخذه في اللاوعي الشعبي والذاكرة الجماعية على انه يمثل عضو الأنوثة … كأنّهما يتشاركان صوفيا”. معان تجسدت إننا لا ننكر أن العلاقة اللغوية قائمة بين ذات الودع والودع، فكلاهما يشير إلى الحيز المكاني الذي يودع شيئا في أمان وصون. كما لا ننكر أن ذات الودع أو السفينة رمز للأنثى التي تعني الخصب وتجدد الحياة. ولكن هذا لا يعني في الضرورة أن الودع يحمل معنى جنسياً. ومن المعروف أن اللاشعور الجمعي انشغل منذ القدم بفكرة الخصوبة الممثلة في الأرض وفي الأنثى. فالأرض تنبت الزرع والأنثى تلد، أي ان كلتيهما عامل أساسي لاستمرار الحياة وتجددها. على أن ” اللاشعور الجمعي” لم ينشغل بفكرة “الأم الكبرى”، وفقاً لاصطلاح علماء النفس، بوصفها كذلك رمزاً للخصوبة فحسب، بل بوصفها كذلك رمزا للابتلاع. وذلك أن تأثير الأم قد يكون سلبيا إلى حد ابتلاع ابنائها، أي عدم تمكينهم من الانطلاق، وتعريضهم لحالة الهلوسة. وفي مقابل الأم التي تبتلع توجد الأم الممثلة للحكمة، أي تلك التي يكون تأثيرها إيجابيا بحيث أنها لا تقدم الغذاء والدفء فحسب، بل قد يصل تأثيرها إلى حد الوصول بطاقة الابن إلى الابداع. وكل هذه المعاني تجسدت في الرموز الأسطورية. فهناك الآلهة”إيزيس” آلهة الخصب عند الفراعنة، ومثلها “ديميتر” عند الأغريق، وهناك الساحرة”كيرك” عند الأغريق، التي كانت تسحر كل من اقترب منها، ومثلها “كالي”آلهة العالم السفلي عند الهنود، التي تبتلع في باطنها كل من دنا منها. وفي المقابل توجد آلهة الحكمة”صوفيا” ويعرف قصصنا الشعبي شخصية”أمنا الغولة” التي يحرص البطل على قتلها وإلا ابتلعته. ويحكي لنا ابن الكلبي في كتابه الأصنام أن خالد بن الوليد وجد “العزى” نافشة شعرها عندما ذهب ليقضي عليها بناء على أمر النبي عليه السلام. والعزى في هذه الحالة تذكرنا تماماً بأمنا الغولة. وإلى هذه الالهات تنتمي بلا شك آلهة ذات الودع أو سفينة نوح التي أودعت كل ما حافظ على استمرار الحياة. ومن الممكن في هذه الحالة أن تعيد السفبنة بوصفها تجسيدا لا شعوريا للأنثى دون أن يدرك الانسان القديم العلاقة بينهما شعوريا. كل هذه الصور التي تعد تجسيدا مباشرا للنمط الأصلي(Archetype ) للام التي عرفتها الشعوب جميعا، ولكن لم تكن قط احدى هذه الالهات رمزا للنبوءة. ولم يرِد في كتب التراث أنّ “ذات الودع” نفسها كانتت مصدراً للنبوءة، بل كان الكهنة يقومون بوظيفة التنبوء بالغيب. وبالمثِل كان عند الإغريقأماكن للنبوءة (Oracle ) وكان الناس يذهبون اليها ليسألوا عما بدا لهم من الأمور ويرد عليهم الوسطاء. وإلى جانب هذه استخدمت البشرية وسائل للتنبوء، منها الفنجان والكف والنجوم ثم الودع والرمل. ولا بد أن يكون كل من هذه الأشياء محتفظا بخاصة ما تجعله يحتفظ بأسرار الغيب. ونحن نعتقد أن ّالودع، لكونه منتميا إلى البحر، موطن الخبايا، ثم لكونه ملتقى بطريقة معينة، بحيث أنه يحفظ السر مصونا داخله، كان وسيلة مناسبة للتنبوء. ويشارك الودع الرمل في كونه جزءا من محتوى البحر. ولهذا فان النوريات يستخدمن الودع والرمل معا في التنبوء. وإذا كانت الأشياء التي تستخدم في التنبوء تتسم بقدرتها على حفظ الأسرار أو استلهامها من العالم المحهول، فان الأشياء التي تستخدم من درء الحسد لا بد أن تكون قادرة إمّا على خداع القوى الشريرة وإما على تنفيرها.فالعرب في الجاهلية كانوا يعلقون كعب الأرنب على صدر الطفل لاعتقادهم أن الجن تنفر من الأرنب لأنها تحيض( النويري، نهاية الأرب،ج3ص123).وكذلك يستخدم صليل النحاس(الهاون) في سبوع الطفل في بلدنا،لأن الأشباح تهرب من هذا الصليل وفقا لاعتقاد الشعوب جميعا(فريزر، الفولكلور في العهد القديم، الجزء الثاني، فصل صليل الجرس، الترجمة). أما النعل الذي يدرسه الأستاذ الباحث في مقاله الثالث بوصفه وسيلة لدرء الحسد، فتتمثل قدرته على تنفير الأرواح الشريرة في كونه رمزا للقذارة. وقال تعالى في سورة طه{{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}}. ومن ثم تحتم على المسلمين أن يخلعوا النعل عند الصلاة أو قراءة القرآن، أو عند تأدية شعيرة دينية بصورة أخرى، كما هو الحال في التصوف. ومع ان الكاتب يصرح أن النعل”رمز للتجسس، للإثم والذنب في الإنسان، وخلع ذلك هو رغبة في التطهر والتبرك والتزكية”، يعود فيؤول رمز النعل على نحو آخر فيقول:” فإذا علق (أي النعل) على السيارة فانه يقصد به إلى أننا لا نملك تلك السيارة فعلا، وإنما نحن حماتها، نسهر  عليها، ونقصد أيضا إلى أن الله يحرسها فهي بين يديه وملكه”. فكيف يمكننا إذن أن نوفق  بين دعوة الدين إلى خلع النعل لأنه رمز للقذارة وبين قدرة النعل على تقريب الشيء إلى الله، إذا ما علق على هذا الشيء؟ وربما أوقع الكاتب، في هذا الاضطراب أن العرب كانوا يعلقون النعال على البهيمة عند تقديمها ضحية. ولا اعتقد تفسير ذلك يتناقض مع ما ذكرناه. فالضحية قد تصيبها العين الشريرة حتى عند تقديمها ضحية. أما أن خلع المتصوفة للنعل يعني انشغالهم بالموت كما يقول الكاتب، فهذا من شأنه أن يبعدنا مرة أخرى عن التفسير المنسجم لهذا الأمر. ولا يعني سوى التخلص من كل ما يتعارض مع الطهارة الكاملة، تماما كما نخلع النعل عند الصلاة ونتوضأ. ولعلنا ندرك بعد ذلك ان عزل الرمز عن الظاهرة الفولكلورية والالحاح على تفسيره في ضوء علم النفس تارة وطقوس الصوفية تارة أخرى، يؤديان حتما إلى الاضطراب في مغزى الرمز، وقد يؤدي الاضطراب إلى التناقض بين التفسيرات المختلفة للرمز، وربما كان الأفضل أن تدرس كل ظاهرةٍ فولكلورية تسود مجتمعاتنا دراسة متكاملة، فنبحث عن اصولها التاريخية وعن التفسيرات الانتربولوجية لرموزها كافة، بقدر ما نبحث عن مدى انتشار هذه الظاهرة في ضوء بناء المجتمع الذي نعيش فيه. وربما استعنا بعلم النفس في ذلك، لكننا حينئذ نستخدم علم النفس الذي يهتم بمشكلات اللاشعور الجمعي في سلبياته وايجابياته، كما فعل يونغ ومدرسته، ولا نقف عند حد التفسير الجنسي كما فعل فرويد ومدرسته. أما التصوف ورموزه، فينبغي أن يفرد لهما بحث خاص بعيدا عن القصص الشعبي وعن التقاليد والرموز الشعبية، حتى لا تتداخل الأشياء بعضها في البعض فيفسد بعضها بعضا. ويا حبذا لو تضافرت جهود الباحثين في الدول العربية من اجل التعرف على حقيقة انفسنا وعلى مظاهر حياتنا التي تتشابه في كثير أو قليل الدكتورة نبيلة ابراهيم سالم (استاذة في كلية الآداب في جامعة القاهرة) جريدة النهار، بيروت،20-1-1975

    • نذكِّر القارىء بأن الدكتور علي زيعور سيعود إلى تناول الأساطير الشعبية متوسعاً أكثر من قبل( الصفحة الثقافية- النهار)
    • را: ردّ الدكتور زيعور.
الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s